وفي ضوء ما تقدَّم، يمكن تسجيل الملاحظات التالية على مسار «المصالحات» الجارية حالياً في تركيا:
1- يقول زعيم «حزب المستقبل»، أحمد داود أوغلو، الذي انشق عن إردوغان قبل حوالى الخمس سنوات، إن رئيس الجمهورية «بارع في التكتيكات السياسية»، آملاً في ألّا يدخل اللقاء بينه وبين أوزيل في باب هذه التكتيكات. ويذكّر تصريح داود أوغلو بدعوة إردوغان، في أعقاب محاولة الانقلاب في الـ15 من تموز 2016، إلى مهرجان ضخم شاركت فيه كل أحزاب السلطة والمعارضة في ساحة «يني قابي» تنديداً بالانقلاب، والذي نُظر إليه على أنه «تاريخي». لكن، ما هي إلا مدّة وجيزة حتى كان إردوغان ينفّذ انقلاباً على المتضامنين معه من أحزاب المعارضة، عبر اللجوء إلى تعديل الدستور وتحويل النظام البرلماني إلى رئاسي، رغم رفض المعارضة. ولاحقاً، جرى انتخابه رئيساً للجمهورية بناءً على هذه التعديلات، لتستمرّ المناكفات الحادّة عل مدى السنوات اللاحقة، وصولاً إلى الآن. لهذا، ونظراً إلى التجارب السابقة، لا يمكن الركون إلى نيّات إردوغان إلّا مع مرور الزمن.
2- تأتي المصالحات بعد هزيمة «العدالة والتنمية»، في الـ31 من آذار، في الانتخابات البلدية واحتلاله المركز الثاني بـ35%، فيما تقدَّم «الشعب الجمهوري» ليكتسح البلديات الكبرى والمهمّة، ويحتلّ المركز الأول بـ37%. ولأن هزيمة الحزب الحاكم هي الأولى له منذ وصوله إلى السلطة في عام 2002، ولأن تبوّء «الشعب الجمهوري» المركز الأول للمرّة الأولى منذ عام 1977، فإن ما جرى يعكس تحوّلاً مهمّاً في المزاج الشعبي الذي قد لا يكون حاسماً في تقرير مصير الانتخابات المقبلة.
لا يمكن لتركيا أن تعرف استقراراً ومصالحات جدّية خارج البحث عن حلول عملية للقضية الكردية
3- جدّية إردوغان في أن يكون اللقاء مع أوزيل بداية مرحلة سياسية جديدة، لا يزال موضع شكّ؛ فهو لم يشعر بالحاجة إلى مثل هذه المصالحات بعد انتصاره في الانتخابات الرئاسية والنيابية في أيار الماضي، بل راهن على أن المعارضة دخلت في غيبوبة. لكن انبعاث «الشعب الجمهوري» في «البلديات»، دقّ ناقوس الخطر من أن تكون الانتخابات بداية أفول إردوغان وحزبه، «العدالة والتنمية»، فسارع إلى تهدئة الأجواء على غرار ما فعله في «يني قابي»، ثم انقلب عليه.
4- نظراً إلى سوابق إردوغان مع المعارضة، فإنه عمل دائماً على محاولات شقّ صفوف أحزابها، سواء في ما بينها أو من داخلها. وربّما تكون لقاءات الرئيس التركي مع المعارضة، محاولة لاستطلاع ما تفكّر فيه الأخيرة واستكشافه.
5- يسعى إردوغان إلى وضع دستور جديد يُدخل فيه تعديلات على النظام السياسي، وهو لا يملك، مع شريكه باهتشلي، العدد الكافي من النواب (ثلثا الأصوات) لإجراء هذه التعديلات في البرلمان، ولا ثلاثة أخماس البرلمان الضرورية للموافقة على إحالة أيّ مشروع إلى استفتاء شعبي. لذا، فإن نيل موافقة جزء من نواب المعارضة ضروري إمّا للتعديل داخل البرلمان، أو الإحالة إلى استفتاء شعبي.
6- يدرك الجميع في تركيا أن المصالحات بين السلطة و«حزب الشعب الجمهوري» تحديداً تبقى في إطارها «التركي»، فيما لا يمكن لتركيا أن تعرف استقراراً ومصالحات جدّية خارج البحث عن حلول عملية للقضية الكردية. لذلك، فإن «حزب الديموقراطية والمساواة للشعوب» الذي يمثّل غالبية القاعدة الكردية في تركيا، كان له موقف مغاير من المصالحات أو اللقاء مع إردوغان. فقد أعلنت الرئيسة الموازية للحزب، تولاي خاتم أوغوللاري، أنها من الداعمين لعمليات المصالحة، ولإعداد دستور جديد. ووفقاً لسوروحان أولوتش، نائب الحزب عن أنطاليا، فإن هناك ثلاثة «شروط» للانخراط في المصالحات، وهي: العمل على دستور ديموقراطي فعلاً، ومن ذلك الاعتراف بالهوية الكردية في الدستور؛ والثاني هو انتظار ما ستؤول إليه الأحكام في «قضيّة كوباني» المسجون بسببها رئيس الحزب الكردي سابقاً، صلاح الدين ديميرطاش؛ والثالث، وقف أيّ عمليات إقالة لرؤساء البلديات الأكراد وتعيين موالين بدلاً منهم في إطار سياسة «القيوم»، أي تعيين قائم مقام بدلاً من الرؤساء المنتخبين؛ والرابع، وقف محاولات إغلاق «حزب الديموقراطية والمساواة للشعوب». وفي هذا الإطار، يرى الكاتب في صحيفة «يني أوزغور بوليتيكا» المؤيدة لـ«حزب العمال الكردستاني»، أن «المصالحات لن تتحوّل إلى مشروع سلام إذا كانت تعني الاتفاق على مشروع حرب ضدّ الكردستاني. المطلوب، إطلاق سراح ديميرطاش ورجل الأعمال عثمان كافالا ومعتقلي حَراك حديقة غيزي»، مضيفاً أن «مشاريع مصالحات إردوغان وباهتشلي وأوزيل لن تتحوّل إلى مشاريع سلام إنْ لم تطرق باب سجن إيمرالي وتطلق سراح قائد الحركة الكردية، عبد الله أوجالان».