وصلت، بحلول منتصف الشهر الجاري، مظاهر أزمة خروج فرنسا المنتظم من إقليم الساحل، إلى ذروة جديدة، وذلك مع ظهور تقارير تشادية عن نهاية وشيكة لنظام محمد إدريس ديبي، بعد سلسلة من الاغتيالات السياسية التي طاولت مناوئين له، أبرزهم: زعيم المعارضة، يحيي ديلو (اغتيل نهاية شباط الفائت)، الذي كشف عن عزمه على خوض الانتخابات الرئاسية المقرّرة في البلاد في أيار المقبل. وسيمثّل سقوط نظام ديبي المحتمل، ضربة قاضية للنفوذ الفرنسي في الإقليم، أخذاً في الحسبان أن تشاد تُعدّ القاعدة العسكرية الرئيسيّة للاستعمار الفرنسي في «أفريقيا جنوب الصحراء»، منذ نهاية القرن الـ 19 لغاية اليوم. وفيما خسرت باريس حربها للبقاء في الإقليم، فإنها تواصل تعميق خساراتها «الإعلامية» لاستمالة سكانه، وفق ما بيّنته أخيراً منتجات آلة الدعاية الفرنسية، وآخرها تقرير «France 24» المنشور في الـ 12 من الشهر الجاري، والذي تداولته وأعادت نشره منافذ إعلامية دولية وعربية، حول مخاوف إزاء تمدّد نفوذ تركيا وإيران والمغرب في الإقليم لملء «الفراغ الفرنسي»، على نحو يعزّز فرضية كون الإقليم فناءً خلفيّاً لفرنسا، ويتجاهل بشكل كامل طبيعة المتغيّرات السريعة التي يشهدها، والتي ربّما تطاول آخر موطئ قدم لفرنسا فيه: تشاد.
تركيا والساحل: خطوات محسوبة
تجنح السياسة التركية الحالية في أجزاء متفرّقة من القارة، إلى خلط الأوراق وإبداء قدْر مذهل من المرونة، من قبيل التقارب مع مصر في ملفّات البحر الأحمر والقرن الأفريقي، والتعاون غير المسبوق مع إيطاليا في الملفّ الليبي. كذلك، لم يغب إقليم الساحل عن اهتمامات الرئيس التركي، رجب طيب إردوغان، الأفريقية، ولا سيما الأوضاع في تشاد الواقعة جنوبي ليبيا. ويمكن ملاحظة أن القاعدة العسكرية التركية النشطة في طرابلس، والتي تضمّ قوات برّية وبحرية مدرّبة تدريباً متقدّماً، والحضور التركي المتزايد في السودان عبر التقارب مع رئيس «مجلس السيادة»، عبد الفتاح البرهان، يمثّلان رافعة قوية لنفوذ أنقرة المتصاعد في تشاد، منذ منتصف العام الماضي، وذلك بعد إتمام تركيا صفقات سلاح مهمّة مع الجيش التشادي، من بينها صفقة طائرات هجومية خفيفة ومن دون طيار، تفعيلاً لاتفاق شامل للتعاون العسكري بين البلدَين، موقّع في عام 2022. وتبدو خطوات تركيا محسوبة بدقّة بالغة في الساحل، ومكمّلة لخطواتها في مصر ودولتَي جوار تشاد العربيتَين (ليبيا والسودان).
وفي النيجر، بادرت تركيا، منذ الانقلاب الذي شهده هذا البلد (تموز 2023)، إلى تقديم دعم مفتوح تمثَّل بدايةً في إعلان إردوغان نفسه دعمه الكامل للانقلاب، وتوجيهه نقداً مباشراً إلى فرنسا التي قال إنها قمعت شعب النيجر طوال سنوات، وإن وقف الأخيرة «صادرات اليورانيوم» إلى الفرنسيين، «ردّ مناسب» على ذلك القمع، والذي امتدّ إلى «الجزائر ورواندا ومالي».
ويمكن رصد مقاربات مماثلة في سياسة تركيا، العضو المهمّ في «حلف شمال الأطلسي»، تجاه مالي وبوركينا فاسو، على نحوٍ يدفع إلى تقدير اندفاع أنقرة لشغل الفراغ الذي خلفته باريس بشكل تدريجي، ويؤشّر إلى فرص نجاح كبيرة في هذا المسار، يعزّزها توظيف تركيا قوّتها الناعمة كمقابل لسياسات فرنسا الاستعمارية والاستغلالية في العقود الماضية.
تسعى دول الساحل، ولا سيما مالي والنيجر وبوركينا فاسو، إلى تجاوز التداعيات السلبية للفكاك من نفوذ القوى الغربية


إيران والساحل: خيال الظلّ أفريقيّاً؟
تظلّ مسألة الوجود الإيراني في أفريقيا عالقة في تصوّرات «أيديولوجية» وشعبوية تواصل النظر إلى علاقات الجمهورية الإسلامية بالقارّة من منظور التهديد المذهبي، أو «نشر الثورة الإيرانية»، وهو تصوّر انسحب على علاقات طهران بإقليم الساحل. فعلى سبيل المثال، كرّرت إسرائيل، قبل أعوام قليلة، تحذيراتها لأنجامينا من «مغبّة أنشطة إيران وحزب الله» في الساحل، ثمّ خلال زيارة محمد ديبي للأراضي المحتلّة قبل أكثر من عام (شباط 2023)، حين طالب وزير الأمن الإسرائيلي، يوآف غالانت، بضرورة «تضييق نفوذ إيران وحزب الله في الساحل كركيزة لضمان الاستقرار ومنع تصدير الإرهاب». لكن خطوات إيران الأخيرة تجاه الساحل تظلّ محدودة التأثير، على رغم مبادرتها (تشرين الأول 2023) إلى توقيع العديد من مذكّرات التفاهم مع واغادوغو خلال انعقاد «اللجنة الاقتصادية المشتركة» للبلدَين، في مجالات الطاقة وتخطيط المدن والتعليم العالي والتشييد. ويعود ذلك إلى الضآلة الفعلية لحجم العلاقات الاقتصادية بين إيران ودول القارة (لم تتجاوز التجارة بينهما حاجز 1.5 مليار دولار في عام 2023)، وعلى وجه الخصوص دول الساحل، على رغم إرجاع مسؤولين إيرانيين هذا التراجع المستمرّ إلى عدم تسجيل جزء كبير من صادرات التجارة في الإحصاءات وذلك على خلفية تعقيدات تتعلّق بخطوط الملاحة وانتظامها وإرسال أغلب هذه الصادرات عبر عمان والإمارات وتركيا.
وكان لافتاً أيضاً، عدم شمول جولة الرئيس الإيراني، إبراهيم رئيسي، الأفريقية (تموز 2023) أيّ محطّة في غرب أفريقيا، واقتصارها على كينيا وأوغندا وزيمبابوي، في ما يؤكد اهتمام إيران التقليدي بمنطقة شرق أفريقيا، أي أن إقليم الساحل يأتي في مرتبة تالية اقتصاديّاً واستراتيجيّاً، ولا سيما أنه لا يوفّر فرصاً آنية مهمّة للصادرات الإيرانية، باستثناء الصناعات العسكرية التي ترتبط صادراتها بدورها باعتبارات سياسية بالغة التعقيد (مثل التنافس الروسي - التركي في الساحل)، وقبلها بمقدرات مالية لحكومات دول الإقليم بالغة الهشاشة في واقع الأمر. وهكذا، فإن الإشارة إلى مساعٍ إيرانية - تركية (ومغربية) منفردة أو مشتركة لتحقيق النفوذ في إقليم الساحل، تهدف، في المقام الأول، إلى خلط الأوراق، وإثارة المخاوف، إزاء مستقبل دول الإقليم، وتكريس النظرة الفرنسية المعهودة له كساحة نفوذ ونهب استعماري منهجي حصراً لباريس.

الولايات المتحدة في المشهد: فيل في الغرفة
تواصل واشنطن اتباع خطوات منفردة وحثيثة لإعادة الزخم إلى حضورها العسكري والسياسي في الساحل، وآخرها إرسال الإدارة الأميركية وفداً بقيادة مولي في، مساعدة وزير الخارجية للشؤون الأفريقية، إلى نيامي لمقابلة رئيس وزراء النيجر، علي لامين الزين، وعدد من كبار المسؤولين العسكريين (12 آذار). وفيما لم يكشف التلفزيون الوطني التشادي تفاصيل الاجتماع، فإن طبيعة تكوين الوفد الأميركي وشموله قائد القيادة العسكرية الأميركية في أفريقيا، «أفريكوم»، مايكل لانغلي، دلّ على مناقشة ملفات عسكرية وأمنية ثنائية، وربّما مصير ألف جندي أميركي موجودين حتى الآن على أرض النيجر، على رغم قرار واشنطن، منتصف العام الماضي، تعليق التعاون العسكري مع نيامي، فيما يُتوّقع أن تدفع واشنطن ونيامي بقوّة نحو إعادة ترتيب مهامّ القوة الأميركية ضمن عملية أوسع لصياغة إطار جديد للتعاون العسكري بين البلدين. ويلاحظ أن التحرّك الأميركي جاء بعد أقلّ من أسبوع من إعلان قائد القوات المسلّحة في النيجر، موسى بارمو (6 مارس)، عقب اجتماع مع نظيرَيه في مالي وبوركينا فاسو، عن تشكيل «قوّة جديدة» من قوات من الدول الثلاث، تقرّر أن تعمل في أقرب وقت ممكن بغية «مواجهة التحديات الأمنية»، ولا سيما في بوركينا فاسو التي شهدت أحداث عنف «منهجية» في شباط الفائت، دفعت واشنطن إلى إعلان قلقها من هذه التطوّرات في بيان رسمي صادر عن خارجيتها.
على أيّ حال، فإن حضور واشنطن في الإقليم، في الأشهر الأخيرة من ولاية إدارة الرئيس الأميركي، جو بايدن، ربّما يكون رمزياً في المقام الأول، أو مجرّد محاولة أخيرة منها لتجميد الوضع الراهن ومنْع التحوّل الراديكالي الذي يشهده إقليم الساحل، ريثما تتمكّن من إعادة ضبط ترتيبات عمل حلفائها، سواء في الإقليم أو في غرب أوروبا، وفق رؤى جديدة تتم صياغتها وتضع - في الغالب - الأولوية لمقاربة قائمة على دعم التنمية و»الديموقراطية» في دول الساحل بدلاً من الاكتفاء بسياسات أمنية ثبت فشلها في حماية المصالح الغربية. ومن جانب آخر، ربّما يبرز التحرّك الأميركي «المنفرد»، والذي يتحسّس من تكرار أيّ فشل جديد، تراجعاً مستمرّاً في اقتناع الولايات المتحدة بقدرة فرنسا على القيام بأدوار مؤثّرة في الساحل على الأقل على المدى المتوسط، وهو ما يمكن أن يوازنه (أو يعوّضه) النفوذ التركي الناجح إلى الآن في تشاد والنيجر على أقلّ تقدير.