هذه التنازلات التي قدّمتها بروكسل جاءت، وفقاً لمراقبين، نتيجة ضغوط حاسمة مارسها عدد من عواصم الدول الأعضاء في الاتحاد الأوروبي، ولا سيما أن النخب الحاكمة تخشى من توسّع ثورة المزارعين، الذين لا يزيد تعدادهم عن 4% من مجموع عدد السكان، لتصبح تمرّداً واسع النطاق يمتدّ ليشمل العمال في قطاعات أخرى تتعرّض بدورها لضغوط اقتصادية تسبّبت بها أساساً السياسات الأوروبية، إلى جانب عدد من العوامل الكلّية الأخرى. وتعاني الطبقات العاملة في أوروبا، كما معظم مستويات الطبقة الوسطى الحضرية، من الآثار السلبية لِما يزيد على عقد من سياسات تقشّف تبنّتها الحكومات الأوروبية، على إثر الأزمة المالية العالمية في عام 2008، والتي تعمّقت في العامين الأخيرين بسبب السياسات التي اتّبعتها المفوضية في أعقاب اندلاع الحرب في أوكرانيا، بعدما فرضت على حكومات الدول الأعضاء تحويل مليارات الدولارات لمصلحة نظام كييف على حساب الميزانيات العامة، ونقْل أرصدة ما يتوافر لديها من أسلحة إلى الجيش الأوكراني ثم رصد ميزانيات إضافية لاستبدالها بأسلحة حديثة. وفي الموازاة، فَرضت أكثر من عشر حُزم عقوبات تجارية ومالية على روسيا، سرعان ما ارتدّت على المواطنين الأوروبيين على شكل تضخم غير مسبوق في تكاليف الطاقة والكيميائيات والنقل، ما دفع باقتصادات كانت مزدهرة حتى وقت قريب إلى دائرة الكساد والركود.
استمرار احتجاجات المزارعين أو تصعيدها بشكل دراماتيكي يمكن في النهاية أن يصبّ في مصلحة اليمين المتطرّف
ويقول خبراء مختصون في الشؤون الأوروبية، إن استمرار احتجاجات المزارعين أو تصعيدها بشكل دراماتيكي يمكن في النهاية أن يصبّ في مصلحة اليمين المتطرّف، الذي يتوقّع كثيرون أن يحقّق مكاسب كبيرة في الانتخابات البرلمانية المقبلة للاتحاد الأوروبي (حزيران المقبل)، في وقت بهتت فيه الأحزاب اليسارية، ولم تَعُد قادرة على التعبير سياسياً عن أحوال الطبقات الأقلّ حظّاً. على أن أحزاباً في غير عاصمة أوروبية كانت تبنّت أجندات سياسية بيئية متطرّفة لجذب ناخبي الطبقات العالية التعليم في المدن، وكذلك جماعات ضغط نخبويّة معنية بتغيير المناخ، عدّت خضوع بروكسل وعواصم أوروبية أخرى لمطالب المزارعين، استجابة قصيرة النظر من السلطات الحاكمة لضغوط «لوبي» يمثّل أقليّة صغيرة من المجتمع، معتبرةً أنه يرسي سابقة خطيرة في الوقت الذي يحاول فيه الاتحاد الأوروبي تبنّي سياسات صناعية وزراعية واستهلاكية للحدّ من انبعاثات غازات الاحتباس الحراري. ويحذّر هؤلاء من أن التنازل لـ«لوبي الزراعة» تحت ضغط «ثورة الجرارات»، يعني بالضرورة تنازلات أخرى لكلّ مجموعة مصالح تقرّر اللجوء إلى الشارع للابتزاز. ولا يستبعد مراقبون أن يحفّز انتصار المزارعين، تكتّلات أخرى من مثل عمّال المصانع، والمعلّمين، ومنسوبي القطاع الصحي، ومستخدمي قطاعات البناء والنقل، على التحرّك بغرض الحصول على مكاسب.
ويعتبر المزارعون أن هؤلاء السياسيين المهووسين بالقضايا البيئية ومسائل جانبيّة أخرى، ليسوا معنيين بـ«هموم ومخاوف الناس العاديين»، وهم - أي المزارعون -، رغم حصولهم على تنازلات لافتة من بروكسل، إلا أنّ غالبيتهم تراها حلولاً قصيرة المدى، كما أنهم ليسوا - وفقاً لتصريحات ممثّلين عنهم للصحف الأوروبية - في مزاج للتراجع الآن، وإنْ كانوا سيمهلون النّخب الحاكمة حتى نهاية الأسبوع الجاري للتوصّل إلى حلول مستدامة، وإلّا فالمزيد من الاحتجاجات. وكان المزارعون أثاروا فوضى مشهدية واسعة عبر القارة في الأسابيع القليلة الماضية، إذ حاصروا محلات التجزئة الكبرى، وألقوا بالسماد العضوي على مبانٍ حكومية، وأشعلوا النار في بالات القش في قلب الشوارع، ونهبوا شاحنات نقل المواد الاستهلاكية، ورشقوا قوات الشرطة بالبيض الفاسد، فيما أغلقوا بجرّاراتهم شرايين الحركة في غير مدينة وميناء، وفرضوا الإغلاق على نقطة حدودية مع أوكرانيا، حتى إن بعضهم جلب بقرة للتسكّع في أرقى أحياء ميلانو الإيطالية.