رافعة واشنطن الخليجية: عين على الصناديق السيادية
أعاد الإعلان، في قمّة «مجموعة العشرين» في نيودلهي (9 - 10 الجاري)، عن إطلاق مشروع طريق يربط الهند بأوروبا مروراً بالشرق الأوسط، إحياء الجدل في شأن التحالفات الدولية ومتغيّراتها، وخصوصاً أن المشروع عُدّ منافساً حقيقياً لمبادرة «الحزام والطريق» الصينية، التي أكملت عقدها الأوّل هذا العام وتركّزت مشاريعها في القارة الأفريقية. وإذ يبدو لافتاً وجود خطوط تقاطع جغرافية بين بؤر «الحزام والطريق» (من الساحل الجنوبي للقرن الأفريقي حتى جيبوتي وإريتريا - على الأقلّ - على ساحل البحر الأحمر الغربي) وامتداد طريق الهند - أوروبا في قلب الشرق الأوسط وربّما ملامسته شرق المتوسط - حيث ثمّة تداعيات اقتصادية مرتقبة لانضمام إثيوبيا ومصر إلى مجموعة «بريكس» -، فإن الظاهر على ضوء تلك المعطيات أن ثمّة مسعًى أميركياً لإعادة ضبط المتغيّرات في مناطق نفوذ واشنطن.
وبرز، في هذا السياق أيضاً، ما نقلته صحيفة «وول ستريت جورنال» عن مصادر مطّلعة، بالتزامن مع انتهاء «G20»، عن وجود محادثات متقدّمة بين الرياض وواشنطن، منذ تموز الفائت، للدخول في شراكات استراتيجية تحصل الأولى بمقتضاها على حقوق استغلال واستيراد معادن ثمينة وهامّة مِن مِثل الكوبالت والليثيوم - من أجل استثمارها في التحوّل الطاقوي للسعودية وخصوصاً مع قرب نهاية الأمد الزمني لـ«رؤية 2030» -، من دول أفريقية أبرزها - في المحادثات الحالية - جمهورية الكونغو الديموقراطية وغينيا وناميبيا. وفي حين ذكّرت المصادر بمساعي الرياض، في تموز الماضي، للوصول إلى اتفاق (ثنائي) مع الكونغو لضخّ استثمارات سعودية بقيمة 3 بلايين دولار في تعدين الكوبالت والنحاس والتانتالوم، فإن الخطوة الأميركية الأخيرة تعني ضمنياً فشل المساعي السعودية المنفردة، ولجوء المملكة مباشرة إلى العمل تحت المظلّة الأميركية «المضمونة» في الكونغو أو غيرها من الدول الأفريقية.
وبحسب «وول ستريت جورنال»، فإن «صندوق الاستثمارات العامة» السعودي (أحد أكبر الصناديق السيادية في العالم، حيث يملك 87 شركة عاملة في 13 قطاعاً استراتيجياً) هو الذي سيموّل هذه الشراكة الأميركية - السعودية. لكن الصندوق نفسه، الذي تقدّر مصادر أميركية استثماراته بما يفوق 35 بليون دولار بعد أن كانت تقف عند 2.5 بليون دولار في عام 2018، يواجه اتهامات بعدم الشفافية في مجلس النواب الأميركي، مع انعقاد لجنة فرعية دائمة فيه (13 الجاري) للتحقيق في اتفاق دمج شركتَي «LIV Golf» (المموَّلة سعودياً عبر الصندوق) و«PGA Tour»، واستثمارات أميركية أخرى، وصفها رئيس اللجنة، ريتشارد بلومنتال، بأنها «جزء من شبكة من الاستثمارات النامية في البلاد، تتّسم بشكل كبير بأنها مجهولة ودونما رقابة تقريباً». وعلى رغم ذلك، يبدو أن ثمّة توجّهاً لدى واشنطن، للاتّكاء على «الصندوق السعودي» مستقبلاً، في تمويل استثماراتها المرجوّة في القارة الأفريقية، وربّما في قطاعات أخرى غير قطاع التعدين.
أيضاً، تحضر الإمارات، التي حظيت بإشادة خاصة من الرئيس الأميركي، جو بايدن، لدورها في مشروع الطريق الهندي، في قلب هذه التناقضات المثيرة، والتي برزت في فاصل زمني لا يتجاوز شهراً بين نهاية قمّة «بريكس» واختتام «قمّة G20». والواقع أن أبو ظبي ستواصل استغلال التحوّلات الحاصلة في البيئة الجيوسياسية العالمية من أجل تثبيت مصالحها في أفريقيا عبر مشروعات دولية ضخمة (عابرة للاستقطاب الأميركي - الصيني)، تتولّى فيها مهمّة التمويل المقترن دائماً بتفكيك ما تبقّى من مفهوم الدولة الوطنية وسيادتها وأصولها الاقتصادية.
على رغم التحوّلات الدولية الجارية، لا تزال واشنطن قادرة على مواصلة تأثيرها الفعال أفريقياً
واشنطن و«ممرّ لوبيتو»: التكالب على المعادن الأفريقية
فيما تواجه الصين تراجعاً اقتصادياً نسبياً في العام الحالي أثّر بدوره على حجم استثماراتها في أفريقيا، عادت الولايات المتحدة وحلفاؤها الغربيون إلى الاستثمارات الكبرى في القارة، وتحديداً في قطاع البنية التحتية. إذ اتّفقت الولايات المتحدة مع الاتحاد الأوروبي، منتصف أيلول، على البدء بحشد استثمارات ضخمة (وغير مسبوقة غربياً في أفريقيا منذ استقلال أغلب دولها) لتشييد خطوط سكك حديد بين كلّ من أنغولا وجمهورية الكونغو الديموقراطية وزامبيا. وأتى ذلك بعد إعلانهما المشترك، على هامش قمّة «G20»، دعمهما «ممرّ لوبيتو» الذي سيعمل على ربط موانئ الدول الأفريقية الثلاث التي تملك احتياطات هائلة من الكوبالت والليثيوم والنحاس. وعلى رغم عدم البدء بخطوات تنفيذية على الأرض، أو حتى توضيح واشنطن وبروكسل الإطار الزمني المتوقّع لاكتمال المشروع، فإن آموس هوكستين، كبير مستشاري بايدن، أكد، خلال القمّة، أن الدول المعنيّة بالممرّ ستجتمع في غضون 60 يوماً لمناقشته. ومن بين هذه الدول، الهند، التي سيتيح لها «لوبيتو» الوصول إلى المعادن الهامّة، مقابل توفيرها القوة البشرية الكفيلة بإنجاح مثل هذا المشروع. وفي حال اكتمال الأخير، فإن واشنطن وحلفاءها ستكون لهما يد نافذة في استغلال موارد الدول المشار إليها، والتي تُعدّ بالغة القيمة (تُقدَّر الثروة المعدنية في الكونغو وحدها بما قيمته 24 تريليون دولار).
هل تُعيد واشنطن صياغة سياساتها الأفريقية؟
على رغم التحوّلات الدولية الجارية، لا تزال واشنطن قادرة على مواصلة تأثيرها الفعال أفريقياً، عبر قنوات خارجة عن الديبلوماسية التقليدية، وسط محافظتها على مستويات متقدّمة من البراغماتية، دلّ عليها مثلاً تفاديها وصف ما حدث في النيجر نهاية تموز الماضي من عزل للرئيس محمد بازوم، بـ«الانقلاب»، حتى لا تضطرّ إلى قطع مساعداتها العسكرية والاقتصادية لهذا البلد، الذي يمثّل أحد أبرز حلفائها في غرب أفريقيا في ملفّ الحرب على الإرهاب. ولربّما يمكن النظر إلى السياسات الأميركية الراهنة في أفريقيا (حتى في «حزام الانقلابات»)، على أنها تتّسق مع مجمل رؤية واشنطن القائمة على إقامة علاقات بنيوية مع أغلب نظم الحكم في القارة، وتفهّم عمليات صنع القرار وتنفيذه داخل هذه الدول، عوضاً عن الارتباطات الواضحة للغاية بين النخب العسكرية الحاكمة في إقليم الساحل - على سبيل المثال - والعسكرية الأميركية. ومن هنا، يمكن القول إن المؤسّسات الأميركية ليست بصدد تغيير سياساتها الأفريقية بأيّ حال من الأحوال (حتى في المستقبل القريب)، وإن التغيير الذي سيطال عملها سيتركّز على ضبط العلاقات مع القوى الدولية والإقليمية النافذة في أفريقيا إمّا تمويل الخطط الأميركية، وبالتالي خفض الأعباء المالية على الإدارة في واشنطن وكبرى الشركات الأميركية المعنيّة أيضاً، أو لتحسين شروط المحاصصة مع المنافسين الدوليين خارج المظلّة الأميركية، ولا سيّما الصين.