وسط استمرار الاحتجاجات بعد أقلّ من شهرين من إطاحة اليمين البيروفي، الرئيس بيدرو كاستيو، في السابع من كانون الأول الماضي، قدَّمت الرئيسة الجديدة، دينا بولوارتي، وحكومتها، في 18 كانون الثاني الماضي، طلباً إلى الكونغرس، جاء فيه: «يسرّنا أن نخاطبكم وفقاً لأحكام المادة 107 من الدستور السياسي للبيرو، وبموافقة مجلس الوزراء، لنعرض على الكونغرس مشروع قانون يأذن بدخول الوحدات البحرية والأفراد العسكريين الأجانب الذين يحملون أسلحة حرب إلى أراضي جمهورية بيرو». وبعد أشهر قليلة، وافق الكونغرس، في 19 أيار الماضي، على مشروع القانون الذي سيسمح بدخول قوات عسكرية أميركية في الفترة الممتدّة بين 1 حزيران و31 كانون الأول؛ وبعدها بأيام، في 31 أيار، أصدرت الحكومة البيروفية القرار التشريعي الرقم 31758 الذي يقضي بدخول العسكريين الأميركيين بعتادهم إلى البلاد من طريقَي الجو والبحر. وبموجب هذه الدعوة، بدأت تصل القوات الأميركية، في الوقت المحدّد، ضمن مجموعات مختلفة تتشكَّل من القوات البحرية والجوية وقوة الفضاء والقوات الخاصة، وأكبرها تضمّ 970 عسكريّاً. وسيُجري هؤلاء تدريبات في البر والبحر والجو يشارك فيها نظراؤهم من القوات المسلحة البيروفية، وقوات العمليات الخاصة التابعة للبحرية، والقوات الجوية، والقوات الخاصة التابعة للشرطة، ومديرية مكافحة المخدرات.ولم تكن دعوة اليمين البيروفي إلى دخول الجيش الأميركي إلى البلاد محض صدفة؛ إذ قضت الدائرة الجنائية التابعة لـ«المحكمة العليا»، قبل موافقة الكونغرس على مشروع القرار بأيام قليلة، بأن احتجاج المواطنين لا يتمتّع بأيّ حماية قانونية، لأنه غير معترف به في الدستور أو في أيّ قواعد قانونية أخرى، وهو ما يعني أن الاحتجاج أصبح جريمة يعاقب عليها القانون، حتى ولو كان سلمياً، علماً أن جذور هذه المسألة ترجع إلى الحكم الصادر عن «العليا»، في عام 1993، والذي ينصّ على عدم وجود حقّ في الاحتجاج بموجب الدستور الذي فرضه الديكتاتور ألبرتو فوجيموري. وتأتي هذه التطورات في وقت يواصل فيه الفلّاحون والسكان الأصليّون والمنظّمات الاجتماعية والطلاب والنقابات العمّالية، الخروج في تظاهرات، تترافق أحياناً مع إضرابات تركّزت في البداية في المقاطعات الجنوبية، لكنها سرعان ما وصلت إلى جميع المقاطعات الشمالية، للمطالبة باستقالة بولوارتي، وإطلاق سراح كاستيو، وحلّ الكونغرس الذي يهيمن عليه اليمين، وعقْد انتخابات جديدة، واستفتاء شعبي على إقامة جمعية تأسيسيّة مهمّتها وضْع دستور جديد للبلاد. ويعيد الدخول الأميركي المتجدّد الآن إلى بيرو، إلى الأذهان، ما تلقَّته الحكومة البيروفية، في الفترة الممتدّة بين عامَي 1990 و2000، من مال وعتاد وسلاح وتدريب وحتى معلومات استخبارية من واشنطن، إلى جانب إرسال العسكريين والخبراء من الولايات المتحدة، من أجل خوض حرب داخلية دموية بدعوى «محاربة الإرهاب» وتجارة المخدرات، وهو ما أدى إلى إجهاض الاقتصاد المحلّي، ومن ثمّ احتداد مختلف أوجه عدم المساواة اقتصاديّاً واجتماعيّاً.

أميركا في بيرو
بدأ الوجود العسكري الأميركي في بيرو، بمهمّة بحرية في عام 1920، وبعمليات عسكرية أخرى بين أربعينيات ومستهلّ سبعينيات القرن الماضي. وشاركت القوات الأميركية بشكل مستمرّ في العديد من العمليات العسكرية داخل بيرو وحولها، حيث درَّبت، في تلك الفترة، أكثر من 7000 ضابط وجندي بيروفي في إطار برامج امتدّت على أربع سنوات. لكن، بحلول عام 1969، أنهَت السلطات البيروفية جميع المهامّ العسكرية للولايات المتحدة في البلاد، وراحت تُخفِّض علاقاتها معها - دون قطعها -، وذلك في أعقاب الانقلاب العسكري الذي قاده الجنرال خوان فيلاسكو ألفارادو، والذي أجرى عمليّة إصلاح اجتماعي وسياسي وأطلق «برنامج الإصلاح الزراعي» (من أكبر برامج الإصلاحات الزراعية في أميركا اللاتينية) وعمليّات التأميم التي هدفت إلى تعزيز استقلالية الاقتصاد البيروفي. وخلال السبعينيات أيضاً، أقام الجيش البيروفي علاقة وثيقة مع الاتحاد السوفياتي تضمّنت مهامّ عسكرية؛ فاستوردت بيرو من الدولة الشيوعية معدّات بلغت قيمتها أكثر من 1.5 مليار دولار، ودُرِّب أكثر من 400 عسكري بيروفي على أيدي السوفيات سنوياً. ولكن، في عام 1975، استولى الجنرال فرانسيسكو موراليس بيرموديز على السلطة، وارتدَّ عن سياسات ألفارادو، فشاركت ليما، تحت حكمه، في عملية «كوندور» (حملة قمع سياسي واغتيالات للقضاء على خطر الشيوعية في الأرجنتين وبوليفيا والبرازيل وتشيلي وباراغواي وأوروغواي) بالتعاون مع الولايات المتحدة والديكتاتوريات العسكرية الأخرى في أميركا اللاتينية.
ستقوم بيرو بدور مهمّ للغاية في أسواق الموارد الطبيعية والطاقة خلال السنوات القادمة


ومنذ الثمانينيات، تقوم القيادة الجنوبية الأميركية «SOUTHCOM» بتمويل ودعم المشاريع التي «تعزّز قدرة الدولة البيروفية على الاستجابة للكوارث الطبيعية، ومواجهة الإرهاب، وتجارة المخدرات». وتحت مظلّة تلك المشاريع، شغلت القوات الأميركية العديد من القواعد في بيرو، فيما استثمرت، منذ عام 2006، أكثر من 54.8 مليون دولار في 287 مشروعاً، بما في ذلك بناء 18 مركزاً إقليميّاً لعمليات الطوارئ. أيضاً، ثمّة وجود أميركي دائم في هذا البلد، يتمثّل في مختبر البحوث الطبية «NAMRU-6» (مستوى السلامة البيولوجية 3) الذي أقامته بحرية الولايات المتحدة في عام 1983 بالقرب من ليما، والذي يثير كثيراً من الشكوك على رغم أن البحرية الأميركية تدير مختبرَين آخريَن (مستوى السلامة البيولوجية 2) في مدينة بويرتو مالدونادو في غابات الأمازون، على بعد 55 كيلومتراً غرب الحدود البوليفية. كما تَحضر واشنطن في الموانئ البيروفية الرئيسة (كالاو، إيلو، بايتا، سالافيري، وتشيمبوتي)، حيث تُشحن المعادن التي تُصدِّرها الدولة - وهي مناطق تشهد أساساً صراعاً اجتماعيّاً شديداً واحتجاجات واسعة -، من خلال استخدام الأسطول الأميركي الثالث. ووفق الإحصاءات، دخل ما يزيد على 43,000 جندي أميركي، بيرو، بين عامَي 2004 و2005، وأكثر من 12,500 عام 2006، وأكثر من 5,000 عام 2007، وأكثر من 5,500 عام 2008، وأكثر من 87,500 دخلوا بين عامَي 2003 و2010 لإجراء تدريبات عسكرية برية وبحرية واستطلاعات جوية بالتعاون مع القوات المسلحة والشرطة البيروفية. ومنذ عام 2015، دخل أكثر من 5000 جندي أميركي إلى بيرو، فيما شارك الأميركيون في مناورات عسكرية أجريت عام 2017 بالاشتراك مع كولومبيا وبيرو والبرازيل في غابات الأمازون، عند نقطة تلاقي حدود الدول الثلاث.
يلازم هذا الحضورَ العسكري للولايات المتحدة، إغراقُ النخبة البيروفية وذوي النفوذ من العسكريين ومنظّمات المجتمع المدني، بالمساعدات التي تساهم في الحفاظ على الظرف الاجتماعي القائم. إذ تشير الإحصاءات إلى أن متوسّط إجمالي مساعدات واشنطن لليما، بلغ، بين عامَي 1990 و2000، حوالي 150 مليون دولار سنوياً، فيما تقرّ بيانات وزارة الخارجية الأميركية بأن إجمالي حجم المساعدات لبيرو، بلغ 201 مليون دولار عام 2022، و210 ملايين عام 2021، و223 مليوناً عام 2020، و182 مليوناً عام 2019، و128 مليون دولار عام 2018، و122 مليون دولار عام 2017، و97 مليون دولار عام 2016، في ما يمثّل أدنى قيمة منذ عام 2001 مقارنة بأعلى قيمة هي 304 ملايين دولار في عام 2015.

ما وراء الستار... أرض البيرو الغنيَّة
تُعدّ بيرو التي يبلغ عدد سكانها 33.4 مليون نسمة، واحداً من أسرع الاقتصادات نموّاً في أميركا اللاتينية، علماً أن نحو 17.37% من سكّانها يعيشون بأقلّ من 3.20 دولارات يوميّاً. وتمثّل أرض بيرو الغنيَّة بالنحاس والذهب والفضّة والرصاص والزنك والغاز الطبيعي والبترول نعمةً ونقمةً في آن؛ إذ تشير التقديرات إلى أنه لدى البلد 678 منجماً عاملاً، فضلاً عن عشرات المشاريع الكبرى، فيما يهيمن قطاع التعدين على الاقتصاد البيروفي (8.5% من الناتج المحلي الإجمالي البالغ 242.63 ملياراً العام الماضي)، وتمثّل صادرات المعادن 63.9% من إجمالي الصادرات. ووفقاً لأحدث البيانات التي نشرتها «هيئة المسح الجيولوجي» الأميركية، تمتلك بيرو 9.1% من احتياطيات النحاس في العالم، و5.6% من الذهب، و17.8% من الفضّة، و8% من الزنك، و6.2% من الرصاص، و2.8% من القصدير. وفي العام الماضي، حلّت المملكة المتحدة في المرتبة الأولى ضمن أكبر المستثمرين الأجانب في قطاع التعدين في بيرو، تلتها الصين وكندا والولايات المتحدة فالمكسيك. ووفق وزارة الطاقة والمناجم البيروفية، بلغ إجمالي الاستثمار في قطاع التعدين وحده 3.9 مليارات دولار في عام 2017، و4.9 مليارات في عام 2018، و5.9 مليارات في 2019، و4.3 مليارات في 2020، و5.2 مليارات في 2021، و5.3 مليارات في 2022.

خاتمة
يوضح الوجود الأميركي المستمرّ في بيرو، بحجّة التدريبات المشتركة، أن جيش الولايات المتحدة يعمل داخل القواعد العسكرية البيروفية، علماً أنه لا يمتلك قواعد خاصة به. وقد أشار العديد من التقارير الإخبارية إلى اجتماع السفيرة الأميركية، ليزا كينا، منذ بداية العام الجاري، بانتظام، مع كبار المسؤولين في حكومة الانقلاب، وخاصة وزير الطاقة والتعدين. وفي هذا السياق، أعلنت حكومة بولوارتي، في نيسان الماضي، عن خطط لخصخصة جميع المعادن، وبالتالي تعطيل الجهود التي بذلها كاستيو لتأميم استخراج الموارد الطبيعية. وإذ يبدو من الواضح أن بيرو ستقوم بدور مهمّ للغاية في أسواق الموارد الطبيعية والطاقة خلال السنوات القادمة، ما يجعل هذا البلد واحدةً من ساحات الصراع العالمي الدائر، فإن ذلك يُفسِّر، من ناحية، طلب اليمين البيروفي دخول القوات المسلحة الأميركية في فترة عصيبة من الاحتجاجات والإضرابات العمّالية والفلاحية والطلابية، ومن ناحية أخرى احتياج الولايات المتحدة إلى مثل تلك الفرصة لتعزيز دورها في القارة اللاتينية وتحقيق أرباح طائلة من وراء استخراج المعادن وغلق باب بيرو أمام التحالف الصيني - الروسي.