شهدت القارة الأفريقية، في الأسابيع الأخيرة، سباقاً روسياً - غربياً جديداً، ظهّرته جولة لوزير الخارجية الروسي، سيرغي لافروف، في القارة، بالتزامن مع أخرى لوزير الخارجية الأوكراني، دميترو كوليبا، نهاية أيار الماضي، شملت المغرب وراوندا وإثيوبيا. وفي هذه الأخيرة، حيث التقى رئيس الوزراء الإثيوبي آبي أحمد، ورئيس مفوضية «الاتحاد الأفريقي» موسى فقي، ورئيس جزر القمر والرئيس الحالي لـ«الاتحاد» غزالي عثماني، دعا كوليبا، الدول الأفريقية، إلى التوقّف عن «حيادها» إزاء أزمة بلاده مع روسيا، قبل أن تعلن كييف (8 حزيران)، قبولها مبادرة الدول الأفريقية للوساطة في الأزمة، وسط تكثيف قادة أفارقة جهودهم في هذا المسار أخيراً.
لافروف في أفريقيا: استعادة الزخم السوفياتي؟
كثّفت موسكو ديبلوماسيتها الأفريقية منذ مطلع العام الجاري على المستويات الممكنة كافّة. ويأتي ذلك في ظلّ ما بات واضحاً من استشرافها حدود وآفاق عودتها القوية إلى القارّة التي شكّلت ساحة نفوذ سوفياتي كبير أيام الحرب الباردة، وتطلّعات الدول أو الشعوب الأفريقية إلى التخلّص من «الاستعمار الجديد»، وتبنّي خطط تنموية شاملة نجحت في حالات محدودة، وباءت بالفشل في حالات أخرى. وزار لافروف، منذ كانون الثاني الفائت، عشر دول أفريقية (منها زيارتان إلى جنوب أفريقيا التي تستضيف قمّة «بريكس» نهاية الشهر المقبل)، وحلّ أخيراً في بوروندي وكينيا (في زيارة وُصفت بالمفاجئة) وجنوب أفريقيا. وفي زيارة مباغتة أيضاً لجهة زعزعة تقسيمات النفوذ التقليدية في القارة، توجّه لافروف، في 29 أيار، إلى العاصمة الكينية نيروبي، شريكة واشنطن التقليدية والراسخة في شرق أفريقيا، والتي توصف بأنها منفذ أميركي مثالي إلى القارّة. وشملت مناقشاته هناك التعاون الروسي - الكيني في التجارة والاستثمارات، والقضايا الإنسانية والثقافية والتعليم والتعاون داخل الأمم المتحدة، وغيرها من القضايا، بحسب بيان للافروف أمام المشرّعين الكينيين. وأعلن المسؤولون الكينيون، بالفعل، التوصّل إلى اتّفاق تجاري بين موسكو ونيروبي سيجري التوقيع عليه نهاية العام الجاري، بهدف تعزيز التعاون بين شركات البلدَين، وتعويض ما أشارت إليه الرئاسة الكينية من تواضع حجم العلاقات التجارية مع روسيا، على رغم الإمكانات الهائلة لتطويرها. كذلك، حضرت، بطبيعة الحال، الأزمة الأوكرانية على أجندة لافروف في كينيا، لكن الأخيرة جدّدت دعوتها إلى احترام سلامة أراضي جميع الدول، والعمل على تسوية الصراع «بطريقة تحظى باحترام الطرفَين». على أيّ حال، اتّضح من الزيارة جنوح موسكو إلى مقاربات عملية ناجعة في ملفّ توفير الحبوب والغذاء لنيروبي، التي تعاني تداعيات التغيّر المناخي على قطاع الزراعة فيها، وقد جاء إعلان لافروف، خلال وجوده في كينيا، إرسال بلاده 34 ألف طنّ متري من الأسمدة إلى هذه الدولة «كجزء من منحة روسية»، ليعزّز آفاق التعاون مع روسيا، التي عرضت أيضاً، وعلى نحو يتّسق بشكل كامل مع سياسات «بريكس»، البحث عن وسائل دفع «سلعية»، أو بالعملات المحلّية، مقابل واردات كينيا من روسيا، والاستغناء عن الدولار الأميركي «ضمن المسار الحالي الذي سيكون له أثر طيّب على الاقتصاد العالمي».
تعبّر الديبلوماسية الروسية الحالية تجاه أفريقيا عن رغبة محمومة في العودة إلى القارّة


كذلك، أَظهرت زيارة لافروف إلى العاصمة البوروندية بوجومبورا (30 أيار)، مدى تصميم بلاده على بذل كلّ الجهود الممكنة لترسيخ عودتها إلى القارة، وإنْ على أسس غير واقعية أحياناً أو ثبت فشل بعضها في السنوات الأخيرة. فقد احتلّ بند جذب بوروندي إلى الجانب الروسي في الأزمة الحالية مع أوكرانيا، موقعاً رئيساً في أجندة الزيارة (الأولى لوزير خارجية روسي إلى هذا البلد منذ 60 عاماً)، لكن محلّلين توقّعوا فشل هذا المسعى لاعتبارات هشاشة الأوضاع الجيواستراتيجية في إقليم وسط أفريقيا ككلّ، وصعوبة انحياز دولة صغيرة مثل بوروندي، على الأقلّ راهناً. وعبّر الرئيس البوروندي، إيفاريستي نايشيميا، عن موقف بلاده بدعوة أطراف الصراع إلى «الحوار في أقرب وقت ممكن». كما أُعلن عقد اجتماع مغلق بين لافروف ونايشيميا أقرّا فيه الإعداد لاتفاق بين حكومتَي بلدَيهما حول مشروع للطاقة النووية للاستخدام المدني، أفيدَ بأن شركة «روساتوم» وضعت خريطة طريق مع شركائها البورونديين. لكن المخاوف الحقيقية إزاء مثل ذلك الإعلان (غير الجديد في واقع الأمر، كونه إعادة لاتفاق وُقّع بالفعل بين البلدَين في تشرين الثاني 2022، ووافقت روسيا بمقتضاه على مساعدة بوروندي في إنشاء محطّات نووية)، تتمثّل في تكرار تجربة روسيا في جمهورية أفريقيا الوسطى، حيث أُعلن قبل سنوات عن مشروع مماثل باستثمارات روسية تجاوزت وقتها تقديريّاً عشرة مليارات دولار، من دون تنفيذ أيّ خطوة بالفعل، في مقابل ترسيخ وجود مجموعة «فاغنر» في الجمهورية في السنوات التالية.

موسكو وبريتوريا: جهود إحياء «الجنوب العالمي»
جاءت زيارتا لافروف إلى بوروندي وكينيا، استباقاً لتوجّهه إلى جنوب أفريقيا لحضور اجتماعات وزراء خارجية دول «بريكس» (1 - 2 حزيران)، وفي وقت تعوّل فيه موسكو بقوّة على استعادة نفوذها الأفريقي من البوابة الجنوب أفريقية لاعتبارات متنوّعة، مثل صلة الأولى تاريخياً مع قادة النظام الحاكم في بريتوريا (ولا سيما «المؤتمر الوطني الأفريقي» و«الحزب الشيوعي» الجنوب أفريقي)، وجنوح الأخيرة إلى تبنّي سياسات أكثر استقلالية عن واشنطن، وتقارب الرؤى بين الطرفَين حول ضرورة إضعاف النظام العالمي التقليدي الذي تقوده الولايات المتحدة منفردة منذ نهاية الحرب الباردة، وتُزاحمها فيه الصين في السنوات الأخيرة بدعم كبير من عدد من القوى الدولية المتوسّطة غير الغربية، مثل روسيا والبرازيل وجنوب أفريقيا. وحضر ملفّ الأزمة الأوكرانية في زيارة لافروف إلى هذه الدولة، التي تقود الجهود الأفريقية للوساطة بين موسكو وكييف، منذ إعلان الرئيس سيريل رامافوسا (أيار الفائت) موافقة نظيرَيه الروسي فلاديمير والأوكراني على مهمّة سلام تقودها بلاده مع خمس دول أفريقية أخرى (مصر والكونغو برازافيل والسنغال وأوغندا وزامبيا)، لتُتوَّج هذه الجهود بإعلان بريتوريا (6 حزيران) اكتمال الاستعدادات الأفريقية لقيام رؤساء الدول الستّ بزيارة إلى موسكو وكييف.
وبدت واضحةً في زيارة لافروف الحاجة المتبادلة بين روسيا وجنوب أفريقيا لمواجهة الضغوط الغربية، خصوصاً في ظلّ ما تعيشه علاقات الأخيرة بالولايات المتحدة من توتّر غير مسبوق، تَمثّل في اتهامها بالانحياز إلى موسكو، بل ودعمها عسكرياً. وهي اتّهامات سعت واشنطن أخيراً إلى التخفيف منها، أملاً في عدم فقدان «حليف أفريقي» بحجم جنوب أفريقيا. وتعوّل موسكو وبريتوريا على زيادة حجم تبادلهما التجاري في الفترة المقبلة على نحو يتّسق مع مقدراتهما الاقتصادية، علماً أنه لم يتجاوز في عام 2022 حاجز 1.3 مليار دولار، على رغم تحقيقه زيادة 16.4% مقارنة بعام 2021. وإلى جانب قضايا التعاون الثنائي، ومناقشة أجندة قمّة «بريكس» (جوهانسبرغ، آب المقبل)، وكذلك قمّة روسيا - أفريقيا (تموز 2023)، فقد شهدت زيارة لافروف لكيب تاون اجتماعات مكثّفة مع مسؤولين من الصين والسعودية. وركّزت محادثاته مع نائب وزير الخارجية الصيني، ما تشاوشيوي، على مسألة التوسيع المحتمَل لمنظّمة «بريكس» لتشمل مرشّحين من مثل السعودية وإيران والإمارات، وإنْ بدت حظوظ الأولى شبه محسومة لتمتّعها بدعم روسي - صيني مشترك من البداية. وإذ لا تزال الدول الأفريقية كافة المرشّحة أو التي قدّمت طلبات بالفعل لعضوية التجمّع مستبعَدة إلى الآن، فإن السعودية حقّقت اختراقاً في ملفّها، كما يتّضح في قرب إتمام محادثاتها مع «بنك التنمية الجديد» (المعروف ببنك «بريكس») للانضمام إلى التكتّل عضواً تاسعاً، في ما اعتبره البنك سبيلاً «لتقوية خيارات تمويله مع معاناة روسيا، المساهم المؤسّس (لبريكس)، من أثر العقوبات». وفي الاتجاه نفسه، عقد لافروف محادثات منفصلة مع نظيره السعودي، فيصل بن فرحان (1 حزيران)، في ترتيب عملي لقبول السعودية في «بريكس».

خلاصة
تعبّر الديبلوماسية الروسية الحالية تجاه أفريقيا عن رغبة محمومة في العودة إلى القارّة، وتوسيع مساحة حركة موسكو دولياً، ومجابهة جهود الولايات المتحدة ومحورها لعزلها. وفي المقابل، يلاحَظ أن روسيا تدرك جيّداً حجم التحدّيات الداخلية في القارة الأفريقية، والتي تدفع حكوماتها المختلفة إلى السعي لحلول غير تقليدية، وربّما استقطابات مستحدثة (الخروج من دائرة الهيمنة الغربية). وهي وعت تماماً الدرس السوفياتي في أفريقيا، والفشل في تطوير العلاقات السوفياتية - الأفريقية إلى أبعد من التعاون العسكري والاقتصادي، بما يعني عدم إمكانية منح موسكو أيّ غطاءات سياسية واقتصادية مجانية للدول الأفريقية حالياً ومستقبلاً. كما أن روسيا تدرك ضيق هوامش حركتها التقليدية في أفريقيا، بفعل تأثير النفوذ الأميركي والغربي الذي لم يفقد زخمه بعد.