مثّل انعقاد محادثات ما يُعرف بـ«أصدقاء مجموعة بريكس»، في مدينة كيب تاون الجنوب أفريقية، مطلع الشهر الجاري، بمشاركة وزراء خارجية بلدان المجموعة الخمس (روسيا، الصين، البرازيل، الهند، وجنوب أفريقيا)، إلى جانب ممثّلين من 12 دولة، من بينها إيران، والسعودية، وكازاخستان، فرصة لتعزيز دور التجمّع الخماسي على الصعيد الدولي، والبحث في طلبات استقبال المزيد من الأعضاء فيه ضمن صيغة «بريكس بلس». وجاءت جولة المحادثات تلك وفق الصيغة الموسّعة للمجموعة، والتي عُرِضت خلال إحدى القمم في مدينة شيامين الصينية عام 2017، في وقت تسعى فيه «بريكس» إلى الحصول على صوت أقوى في إدارة شؤون العالم، صوناً لما تسمّيه «التوازن الدولي» بين عالم الشمال «الغني»، والجنوب «الفقير».وبدا لافتاً، خلال «قمّة كيب تاون» التمهيدية للقمّة السنوية الـ15 لقادة «بريكس»، والمقرّر عقدها في مدينة جوهانسبورغ في جنوب أفريقيا في آب المقبل، البحث في خطوات عملية لتقويض هيمنة العملات الغربية، بخاصة الدولار، في التعاملات المالية والتجارية بين دول العالم. ومن بين تلك الخطوات، ما أُشيع حول نيّة المجموعة إصدار عملة جديدة خاصة بها، إضافة إلى توسيع نطاق عمل «بنك التنمية الجديد» التابع لها، بحيث يتولّى أدواراً مماثلة لكلّ من «صندوق النقد الدولي» و«البنك الدولي». وعلى خلفية برنامج عمل القمّة، وإعلان وزيرة خارجية جنوب أفريقيا، نالدي باندور، أن إنشاء عملة خاصة بمنتدى «بريكس» سيكون بنداً رئيساً على جدول أعمال «قمّة جوهانسبورغ»، سال حبر كثير في الغرب حول تسارع وتيرة النشاط الصيني - الروسي، وبخاصة داخل أروقة المجموعة، لتوجيه ضربة كبرى للهيمنة الغربية على النظام العالمي.

أفول الغرب ليس سراباً
منذ انعقاد القمّة الأولى للبلدان المنضوية فيها عام 2009 (قبل انضمام جنوب أفريقيا)، تُعرّف المنظّمة عن نفسها بصفتها «الناطق باسم عالم الجنوب العالمي»، بجناحَيه النامي والصاعد، وتصرّ على تحديد دورها من زاوية رفع التهميش اللاحق بذلك الجزء من العالم في هياكل النظام الدولي القائم الذي أرسته الحرب العالمية الثانية، وتجلّياته الاقتصادية المنبثقة عن اتفاقيات «بريتون وودز». وإذا كان عدد من بلدان الجنوب قد حجز مقعده على طاولة القرار الاقتصادي العالمي، ضمن «مجموعة العشرين»، فإن استمرار هيمنة القوى الغربية، بخاصة الولايات المتحدة، على النظام الدولي، سياسياً واقتصادياً، حفّز تلك الدول على مدى العقد الأخير، بإلهام صيني، على تفعيل آليات جديدة داخل منتدى «بريكس»، نجم عنها إطلاق «بنك التنمية الجديد»، بالتوازي مع ولادة بنوك تنموية تديرها بكين، على غرار «بنك الاستثمار الآسيوي في البنية التحتية الآسيوية»، وذلك كجزء من محاولاتها إيجاد بدائل من المؤسّسات الدولية السائدة. وكمؤشّر إلى انزياح مركز القوّة الاقتصادي العالمي من الغرب إلى الشرق، ومن الشمال إلى الجنوب، فقد باتت منظّمة «بريكس» تسهم بنحو 32 في المئة من الاقتصاد العالمي، متفوّقةً للمرّة الأولى على «مجموعة السبع» التي تمثّل 30.7 في المئة من هذا الاقتصاد.
وتَعتبر مصادر ديبلوماسية مشاركة في «قمّة بريكس» الأخيرة، أن نجاح بلدان المجموعة في إرساء توازنات دولية جديدة، تراعي تطلّعات «بلدان الجنوب العالمي» بصورة أكبر، في ملفّات جوهرية بدءاً بقضية التغيّر المناخي التي يحمل «الغرب الصناعي» جزءاً كبيراً من وزرها، وليس انتهاءً بالفجوة التكنولوجية المتزايدة بين العالمَين النامي والمتقدّم، إضافة إلى معضلة ارتفاع معدّلات الفقر وقصور برامج التنمية والتي يطلّ جانب كبير منها من بوّابة «السياسات الإنمائية» المرعيّة من قِبل المؤسّسات المالية المهيمنة، وفي طليعتها «البنك الدولي»، شكّل في حدّ ذاته حافزاً لاهتمام بلدان أخرى بالانضمام إلى عضوية المجموعة. وفي هذا الصدد، يشير سفير جنوب أفريقيا لدى «بريكس»، أنيل سوكلال، إلى أن مصدر اهتمام بلدان الجنوب العالمي بعضوية المنظّمة، هو شفافية هذه الأخيرة في عرض التحدّيات المحدقة بتلك البلدان، موضحاً أن أوجه القصور في النظام الدولي الراهن، الخاضع لهيمنة البلدان الأكثر ثراءً، والذي تحكمه مظاهر غياب التكافؤ، وانعدام المساواة، تأتي في صلب ذلك الاهتمام.
الصين لا تسعى إلى إحلال اليوان، بصورة فورية، كعملة دولية بديلة للدولار


ومن هنا، تكتسي بنود القمّة المتعلّقة بالجوانب الاقتصادية والمالية والنقدية، وبخاصة ما يرتبط منها بمستقبل الدولار في التعاملات التجارية الدولية، صفة الاستعجال، ولا سيما وأن الدول الخمس باشرت بالفعل اتّخاذ خطوات عملانية على هذا الصعيد، حيث أعلن الرئيس البرازيلي، لولا دا سيلفا، أخيراً، عزمه إطلاق عملة مشتركة مع الأرجنتين. وبالنظر إلى أن عامل هيمنة الدولار في التعاملات التجارية الدولية، يندرج ضمن خانة «الاستعمار النقدي والمالي» الذي يمارسه «أغنياء الشمال» على «فقراء الجنوب»، يرى كبير المستشارين في مجموعة «ليندسي» للبحوث، جوزيف دبليو سوليفان، أن «سياسات الولايات المتحدة، بما في ذلك إدمانها نهج فرض العقوبات الاقتصادية، أفضت إلى تعزيز اهتمام بلدان بريكس بالتوجّه نحو إطاحة الدولار (في النظامَين المالي والنقدي الدولي)»، مشيراً إلى أن واشنطن «تفتقر إلى سياسة ناجعة متماسكة تجاه بلدان الجنوب العالمي». كما يدعو سوليفان، الذي شغل منصب الخبير الاقتصادي في مجلس البيت الأبيض للمستشارين الاقتصاديين خلال إدارة الرئيس الأميركي السابق دونالد ترامب، بلاده إلى الإقلاع عن ربط سياستها حيال تلك البلدان، بمدى ارتباط الأخيرة بالصين، محذّراً من أن انضمام المزيد من الدول إلى «بريكس» سوف يسهم في «زيادة فرص نجاح مسعى المنظّمة إلى تنحية الدولار عن عرش العملات العالمية». ومع أن إصدار عملة منافسة لـ«العملة الخضراء» في الوقت الحالي يعدّ خياراً غير واقعي، نظراً إلى استحواذ الدولار على أكثر من 80 في المئة من التعاملات التجارية الدولية، يؤكد سوليفان أن جنوح «بريكس» نحو هذا الخيار خلال السنوات المقبلة قد يزعزع أركان السردية القائلة باستقرار الدولار، ملمّحاً إلى أن الأمر قد يتحقّق من خلال سيناريوات عدة، أبرزها اتّجاه التكتل الخماسي على المدى المنظور، إلى اعتماد عملته العتيدة لأغراض التجارة الدولية حصراً، وتوسيع استخدامها كعملة احتياط دولية.
وعلى رغم محدودية التداول بـ«العملات الدولية البديلة»، ومنها اليوان الصيني بنسبة لا تتجاوز الخمسة في المئة من حجم التجارة الدولية، فإن للتكتّل الخماسي نقاط قوّة عدّة، لعلّ أبرزها امتلاك بلدانه فائضاً تجارياً يقدَّر بنحو 387 مليار دولار، فضلاً عن طابعه الجغرافي المترامي الأطراف، بحيث تُعدّ أطرافه أقطاباً اقتصادية إقليمية في جوارها المباشر، على غرار البرازيل وجنوب أفريقيا، ما يجعله مؤهّلاً، في حال توافق أعضائه على إصدار عملة موحّدة، لتحقيق أكبر قدر من الاكتفاء الذاتي من حيث إنتاج السلع، وتصدير المنتجات إلى أسواق أوسع من أيّ اتحاد نقدي آخر، كالاتحاد الأوروبي مثلاً. كذلك، وبمعزل عمّا يركز عليه الإعلام الغربي بخصوص التوتّرات الأمنية بين الهند والصين، إلّا أن كلتا الدولتَين تبديان انزعاجهما من التوظيف السياسي السلبي لـ«الهيمنة الدولارية» من قِبل الولايات المتحدة. أيضاً، يتوقّف خبراء اقتصاديون عند نقاط قوّة أخرى، من بينها انطلاق بلدان «بريكس» في عملها، من محدّدات «مبدئية» أو «أيديولوجية» من قَبيل رفضها التدخّل الخارجي في الشؤون الداخلية للدول، فضلاً عن عقدها اجتماعات تشاورية دورية، بدءاً من عام 2016، تتجاوز الملفّات الاقتصادية لتشمل جوانب أمنية مختلفة كمكافحة الإتجار بالمخدرات. كما تحرص تلك البلدان على تنسيق مواقفها قُبيل القمم الدولية الدورية التي تشارك فيها، كاجتماعات «مجموعة العشرين».

عن الوجه الآخر لانحدار أميركا
يبدو تطوّر واقع المنظّمة مرتبطاً بعامل الحضور الصيني المتزايد في الشؤون الدولية. ومع توالي العقوبات الغربية ضدّ روسيا من خارج إطار مجلس الأمن الدولي، تمسّكت الصين، أكثر فأكثر، بمواصلة «مسارها الأيديولوجي» بشأن العلاقات الدولية، وإيجاد مجالها الخاص من النفوذ الجيوسياسي، من خلال إعادة النظر في أسس النظام العالمي القائم، بخاصة في الشقَّين المالي والنقدي. ووفق تقديرات معهد «Enodo Economics» للدراسات المستقبلية، فقد شكّل نجاح الغرب في تجميد حوالي نصف احتياطيات موسكو المالية (أكثر من 300 مليار دولار)، دافعاً لبكين إلى تعزيز جاذبية عملتها في الأسواق الدولية كعملة احتياط معتمَدة لدى المصارف المركزية، وترسيخ هياكلها المالية والنقدية الخاصة بها في تعاملاتها التجارية.
وإذ يرجّح المعهد أن تسرّع تلك التطورات وتيرة ما سمّاه «حالة الشقاق» على مستوى العلاقات الدولية، بخاصة العلاقات الأميركية - الصينية، فهو يعرّج على «عوارض» ذلك الشقاق المتواترة خلال الأعوام الماضية، مستعرضاً في هذا السياق لجوء روسيا إلى طرح نسختها الخاصة من منظومة «SWIFT» الغربية للتعاملات المصرفية والمالية الدولية، والمعروفة باسم «SPFS»، وأيضاً الصين التي أطلقت بدورها عام 2015 منظومة «CIPS»، التي باتت تتعامل مع أكثر من 70 مصرفاً، من ضمنها 25 مصرف مراسلة خارجياً، مع أن جانباً كبيراً من عملياتها المالية لا يزال يعتمد بصورة أساسية على نظام «SWIFT». ويَعتبر المعهد أن حرب أوكرانيا ستحفّز الدولتَين على تعزيز دور منظومة التراسل المالي لكلّ منهما، مضيفاً أن «الاكتفاء الذاتي» سيكون سمة بارزة من سمات النظام العالمي المالي الجديد.

«لم يكن قرناً أميركياً»
بحسب مجلّة «فورين بوليسي»، فإن الصين لا تسعى إلى إحلال اليوان، بصورة فورية، كعملة دولية بديلة للدولار، بل ستُركّز عملها على جعله عملة قوية إقليمياً عن طريق عقد اتّفاقات تجارة بالعملة المحلّية مع بلدان أخرى، أو عبر تعزيز تحالفاتها المالية مع قوى دولية بارزة، كروسيا. وفي هذا السياق، أطلق بنكا «هاربين» الصيني و«سبيربنك» الروسي، وهو أكبر بنك ادّخار في روسيا من حيث الأصول، عام 2016، التحالف المالي الصيني - الروسي، كمنظّمة تعاون مالي غير ربحية عبر الحدود، بعضوية 18 مؤسّسة مالية صينية، و17 روسية.
وفي الميدان التجاري، تُعدّ الصين الشريك التجاري الأكبر لزهاء 120 دولة. ووفق دراسة أعدّها «صندوق النقد الدولي» حول 73 بلداً نامياً، فقد شكّلت الديون الصينية نحو 18 بالمئة من إجمالي الديون الخارجية لتلك البلدان في عام 2020، فيما شكّلت مستحقّات «نادي باريس» على تلك الدول حوالي 10 في المئة للعام نفسه، مقارنةً بما نسبته 2 في المئة للأولى، و28 في المئة للثانية خلال العام 2006. وتشير منظّمة «AidData» للبحوث إلى وجود علاقة بين ارتفاع معدّلات التصويت المتماهية مع وجهة النظر الصينية إزاء عدد من القضايا (بخاصة تايوان) داخل هيئات الأمم المتحدة، من جانب عدد من البلدان، بنسبة قاربت 10 في المئة في حالات معيّنة، وبين قيام الصين بتنفيذ مشروعات فيها.
وبالمقارنة مع النفوذ العالمي المتضائل لواشنطن، يوجز حديث الديبلوماسي الأميركي، تشاس فريمان، وهو أحد رجال السياسة المخضرمين الذين رافقوا الرئيس الأميركي، ريتشارد نيكسون، في زيارته إلى الصين عام 1972، هذا الواقع بقوله: «لقد أفَلَت لحظة المجد الأميركي منذ فترة طويلة، ذلك أن قدرتنا على فرض آرائنا (على الدول الأخرى) تراجعت. ويبدو أن مقاربتنا للعالم لا تزال على حالها كما لو أننا لا نزال نتمتّع بسلطة مطلقة، ظَنَنّا أننا امتلكناها مع انقضاء الحرب الباردة. فقد جرت العادة أن نمارس الغطرسة والتهديد، وأن نفرض العقوبات، إضافة إلى شنّ عمليات القصف وإرسال مشاة البحرية (إلى مناطق الأزمات)، إلّا أننا لا نلجأ إلى اتّباع أساليب الإقناع مطلقاً». ويتابع أن «الأمر لا يقتصر على حقيقة انتهاء القرن الأميركي، والذي تَبيّن أن عمره لم يتجاوز الخمسين عاماً، بل يتعدّاه إلى واقع نهاية 500 سنة من عمر صعود المحور الأطلسي - الأوروبي».