«أُغلقت صناديق الاقتراع وفُتحت الأبواب»؛ بهذا العنوان الرئيس كانت صحيفة «قرار» المعارضة - والمؤيّدة لأحمد داود أوغلو وعلي باباجان - ترسم بعض ملامح السياسات الخارجية الجديدة المحتمَلة من جانب إدارة الرئيس التركي المنتخَب لولاية ثالثة، رجب طيب إردوغان. وبعدما طُويت صفحة انتخابات شغلت المنطقة والعالم، نظراً إلى الدور المحوري الذي تلعبه تركيا في الصراعات الإقليمية والدولية، بدأ النقاش حول المرحلة المقبلة، وما قد تحمله من تغيير أو استمرار للسياسات الحالية القائمة. وبطبيعة الحال، لم تَخلُ الانتخابات التركية من أدوار أساسية مباشرة وغير مباشرة للقوى الخارجية، لعلّ أبرزها: الاستثمار الروسي المالي والدعائي، والودائع الخليجية (قطر، السعودية والإمارات) التي ساهمت في لجم انهيار سعر صرف الليرة التركية أمام الدولار الأميركي، مبقيةً إيّاه عند 19 ليرة لكل دولار. وساهم ما تقدَّم، في امتصاص جزئي لنقمة المواطنين على سياسات إردوغان الاقتصادية، فيما أضيفت إلى مفعوله أيضاً «المكرمات» الموزّعة من خزينة الدولة، والوعود بزيادات كبيرة في الرواتب وإعفاءات من الضرائب والرسوم، ومساعدة جميع متضرّري زلزال السادس من شباط.وأمّا وقد أصبح إردوغان أمراً واقعاً لخمس سنوات مقبلة، فإن المنطق يقول إن العالم الخارجي بمعظمه سيتعاطى معه من منطلق «التعايش» والقبول به بما له وما عليه، واتّباع سياسة «أعطِ وخذ». ولعلّ أوضح نموذج على سياسة التعايش هذه، الموقف الأميركي الذي استدار جزئياً؛ إذ بعدما توعّد الرئيس الأميركي، جو بايدن، نظيره التركي، بإسقاطه في الانتخابات، ومن ثمّ أظهر لامبالاة شكليّة أعقبت نتائج الدورة الأولى حين قال إنه «لا يهمّه» مَن يصبح رئيساً لتركيا، عاد وأرسل، بعد فوز إردوغان، رسالة تهنئة له أعقبها بمحادثة، قائلاً إنه ينتظر اللقاء معه بعينَين مفتوحتَين. وتدرك تركيا جيّداً أن علاقاتها مع الولايات المتحدة تظلّ عنواناً رئيساً في سياساتها الخارجية، خصوصاً بالنظر إلى عضوية الأولى في «حلف شمال الأطلسي» منذ عام 1952. وبعد عقد ونيّف من الشراكة بين إردوغان والأميركيين، منذ عهد جورج بوش الابن والولاية الأولى لباراك أوباما، كانت بداية الشرخ مع الاختلاف في الموقف من «قوات حماية الشعب» الكردية في شرق الفرات، والتي احتضنتها واشنطن، بينما اعتبرتها أنقرة «تهديداً لأمنها القومي». واتّسع الشرخ إثر محاولة الانقلاب ضدّ إردوغان في صيف عام 2016، والتي اتَّهم الأخير، أوباما ومعه السعودية والإمارات، بالوقوف وراءها. ومع أن العلاقات إبّان عهد دونالد ترامب بدت أقلّ توتّراً، إلّا أنها ظلّت فاترة، حتى إن الرئيس الأميركي السابق وصف نظيره التركي، ذات مرّة، بـ«الأحمق». واستمرّت حالة الجفاء عقب وصول بايدن إلى البيت الأبيض، إذ قرّر هذا الأخير تحييد فكرة اللقاء مع إردوغان، في سابقة هي الأولى بالنسبة إلى رئيس أميركي، وبقي التواصل بينهما «على القطعة»، مِن مِثل التباحث في مسألة انضمام فنلندا إلى «الناتو»، فيما شكّل تطوّر العلاقات بين تركيا وروسيا عاملاً إضافيّاً في توسّع الخلاف بين أنقرة وواشنطن. وتأتي رسالة التهنئة الأميركية لإردوغان، لتطرح تساؤلات عمّا إذا كانت ثمّة مرحلة جديدة في العلاقات بين البلدَين بدأت تَرتسم، أم أن الأمور ستبقى على حالها. وفي حين لا توجد أجوبة حاسمة إلى الآن، سيكون الجانبان أمام أوّل اختبار لهما أثناء قمّة «الأطلسي» المرتقبة في ليتوانيا بين 11 و12 تموز المقبل، حيث ستُناقَش مسألة انضمام السويد إلى الحلف، بعدما أبلغت استوكهولم، «الناتو»، بأنها «أتمّت» التزاماتها لجهة تلبية شروط أنقرة بمحاربة «الإرهاب» الكردي. كذلك، ستكون مسألة تزويد تركيا بطائرات «إف-16» الامتحان الثاني، بعدما طُويت نهائيّاً صفحة تزويدها بطائرات «إف-35». وبالتالي، تصبح المعادلة واضحة: «عضوية السويد، في مقابل توريد طائرات إف-16».
تبقى العلاقات التركية مع سوريا محطّ أنظار المراقبين في مرحلة ما بعد تجديد انتخاب إردوغان


وبالنسبة إلى الأوروبيين، فقد هنّأ زعماء الاتحاد، جميعهم، إردوغان، وعلى رأسهم الرئيس الفرنسي، إيمانويل ماكرون، الذي كان يُعتبر المشاكس الأبرز للرئيس التركي في أكثر من ساحة. ووفق الكاتب مراد يتكين، فإن فوز إردوغان لن يُقلق أوروبا، بل على العكس، ذلك أنه لا يزال ممسكاً بملفّ اللاجئين السوريين، فيما يستطيع إبقاءهم داخل الأسوار التركية، قي مقابل دفْع أوروبا ما لا يقلّ عن خمسة مليارات يورو سنوياً لتركيا. ويقول يتكين إن أوروبا لم تكن متحمّسة لوصول كمال كيليتشدار أوغلو الذي يريد إخراج اللاجئين السوريين من تركيا، والذين لن يعودوا كلّهم إلى بلدهم، بل سيحاول أغلبهم الانتقال إلى أوروبا، وهو ما لا تريده الأخيرة.
ومن المتوقَّع، بطبيعة الحال، أن تتوثّق العلاقات التركية مع روسيا، خصوصاً أن موسكو دعمت علناً حملة إردوغان. لكن هذه العلاقات ستظلّ محكومة بحسابات إردوغان الذي يحرص على إبقاء الجسور قائمة مع الدول الغربية، وعدم الاضطرار للسقوط بالكامل في حضن الروس. ولا ترى الكاتبة نيلغون غوموش، في صحيفة «حرييات»، مفاجأة في أن يكون الرئيسان فلاديمير بوتين وفولوديمير زيلينسكي من أوائل المهنّئين بفوز إردوغان، نظراً إلى علاقات تركيا الجيّدة معهما. ولم يفوّت الرئيس الفنزويلي، نيكولاس مادورو، أن يقول في تغريدة «تحيا تركيا»، فيما اعتبر رئيس وزراء باكستان، شهباز شريف، إردوغان «السند القوي للمسلمين المظلومين».
وإذا كانت إيران مرتاحة لفوز إردوغان، وهي عملت عبر محاولة التقريب بين تركيا وسوريا على تعزيز حظوظه للفوز، فلا شكّ في أن العلاقات التركية مع الدول العربية ستحظى باهتمام كبير، ولا سيما مصر وسوريا. وقد لفت في رسائل التهنئة الخارجية، تلك التي وردت من الرئيس المصري، عبد الفتاح السيسي، الذي لم يتلقّ رسالة تهنئة من إردوغان لدى انتخابه رئيساً لمصر، لا عام 2014 ولا عام 2018. وقد اتّفق الزعيمان، في اتصال هاتفي، على تبادل السفراء قريباً جدّاً، في ما يعني بدايةً فعليّة لمرحلة التطبيع بينهما على أمل التوصّل إلى حلّ لخلافاتهما حول ليبيا والطاقة في شرق المتوسط ومسألة «الإخوان المسلمين» المصريين.
وتبقى العلاقات مع سوريا محطّ أنظار المراقبين في مرحلة ما بعد تجديد انتخاب إردوغان. فعلى رغم الجهود الروسية والإيرانية المضنية قبل الانتخابات لتحقيق خرق في المحادثات بين البلدَين - وعلى مستوى «الرباعية» -، وصولاً إلى محاولة جمْع الرئيسَين إردوغان وبشار الأسد، فإن تقدُّماً ملموساً لم يتمّ إحرازه حتى الآن؛ بل لفت أنه بين دورتَي الانتخاب الأولى والثانية، أطلق الرئيس السوري موقفاً عالي السقف ضدّ تركيا، عندما تحدّث عن «خطر الفكر التوسّعي العثماني المطعّم بنكهة إخوانية منحرفة»، وهو ما اعتُبر لدى البعض إشارة إلى تعثّر مسار المصالحة بين البلدَين، ورفْض تركيا تلبية بعض المطالب السورية المسبقة، أي التعهّد بالانسحاب من الأراضي السورية المحتلّة وفق جدول زمني واضح وضرب الجماعات الإرهابية في إدلب وغيرها. وفي هذا الإطار، لم يكن «خارج السياق» أو مستهجناً ألّا يوجّه الأسد رسالة تهنئة إلى إردوغان لمناسبة فوزه، بل إن ذلك كان هو المنتظر من الرئيس السوري، والذي يأتي انسجاماً أولاً مع تقليد التعامل بالمثل، حيث لم يوجّه إردوغان رسالة تهنئة إلى الأسد، على إثر انتخابه في عام 2021، وثانياً انسجاماً مع الضوابط الوطنية بعدم التبريك لرئيس دولة يحتلّ جيشها جزءاً من الأراضي السورية، وكان له دور «فاعل جدّاً» في إضعافها. وعلى رغم أن المناخات لا تبدو مشجّعة، فالأغلب أن روسيا وإيران تبحثان الآن عن صيغ جديدة للتقريب بين تركيا وسوريا تحفظ الحقوق الوطنية والسيادية للأخيرة، وتلبّي «الهواجس» الأمنية للأولى.