لطالما كانت رحلات القادة السياسيين التايوانيين الخارجية محفوفة بالمخاطر، وذلك نظراً إلى كوْن تايوان جزءاً من الأراضي الصينية، وليست جزيرة مستقلّة، وإنْ ظلّت النزعة الانفصالية سِمة ملازمة لقياداتها الحاكمة. وفي آخر تجلّيات هذه النزعة، قرار رئيسة تايوان، تساي إنغ وين، زيارة دول حليفة في أميركا الوسطى، والتوقّف بدايةً في لوس أنجليس الأميركية، واختتام الرحلة من كاليفورنيا، حيث التقت رئيس مجلس النواب الأميركي، كيفن مكارثي. وهدفَ اللقاء إلى إظهار الدعم الأميركي لتايبيه، إذ قال الزعيم الجمهوري إن «الإيمان المشترك بالديموقراطية والحريّة يشكّلان حجر الأساس لعلاقة دائمة»، مضيفاً أن «الصداقة بين شعبَي تايوان وأميركا، مسألة ذات أهميّة عميقة بالنسبة إلى العالم الحّر»، وأنه من «المهمّ الحفاظ على الحرية الاقتصادية والسلام والاستقرار الإقليميَّين». وتابع أن «رابطة تايوان وأميركا أصبحت الآن أقوى من أيّ وقت مضى»، وأن «تساي كانت البطلة العظيمة في هذه العلاقة»، رافضاً، في الوقت ذاته، دعْم أيّ تغيير في سياسة «الصين الواحدة». من جهتها، وبعدما أطلقت تحذيرات متتالية من مغبة توقّف تساي في الولايات المتحدة، اكتفت الصين، إلى الآن، في ردّها على "تطنيش" تلك التحذيرات، ببدء تدريبات عسكرية، يوم الأربعاء الماضي. مع ذلك، ترى مجلّة «إيكونومِست» البريطانية أن تساي «تُخاطر بتحويل تايوان إلى بؤرة ساخنة»، خصوصاً في ظلّ التدهور الملحوظ التي تشهده العلاقات الصينية - الأميركية، وهو ما يمكن أن يؤدي إلى «إظهار الحزم من جانب بكين»، وفق ما قاله الباحث في معهد «كوينسي»، مايكل سوين، لصحيفة «غارديان». لكن المجلّة نوّهت أيضاً إلى أن الصين حذرة إزاء الردّ بطريقة يمكن أن تساعد «الحزب الديموقراطي» (تقوده تساي) على المنافسة في انتخابات تايوان المقبلة، ضدّ حزب «الكومينتانغ» المعارض. والجدير ذكره هنا أن المسؤول البارز في الحزب المعارض، رئيس تايوان السابق، ما ينج جيو، موجود في بكين حالياً، للدفع بأجندة مختلفة عن تلك التي تتبنّاها تساي، في زيارة هي الأولى من نوعها لمسؤول تايواني رفيع إلى الصين منذ عام 1949. ويرى محلّلون أن لدى الجمهورية الشعبية «حافزاً قويّاً لتهدئة ردّ فعلها»، لا سيما وأن الرئيس الفرنسي إيمانويل ماكرون، ورئيسة المفوضية الأوروبية أورسولا فون دير لاين، يزوران بكين حالياً، في مسعى إلى إعادة إحياء العلاقات الصينية - الأوروبية.
مزيد من التآكل لمعسكر تايوان، سيكون بمثابة ضربة أخرى للولايات المتحدة


في المقابل، وعلى رغم استضافتها تساي، بدت الولايات المتحدة حريصة على التخفيف من وقع خطوتها؛ إذ كرّر وزير الخارجية، أنتوني بلينكن، القول إن رئيسة تايوان «لم تقم بزيارة رسمية إلى الولايات المتحدة، بل إن وجودها في هذا البلد مجرّد ترانزيت». ويُضاف إلى ما تَقدّم، أن الاجتماع بين مكارثي وتساي عُقد على الأراضي الأميركية وليس في تايوان، وهو ما يُعتبر خياراً «أقلّ خطورة»، كما وصفته صحيفة «نيويورك تايمز»، فضلاً عن أن مستشار الأمن القومي الأميركي، جايك سوليفان، استبق جولة رئيسة تايوان بالاتصال بعضو المكتب السياسي لـ«الحزب الشيوعي الصيني» ومدير الشؤون الخارجية المركزية، وانغ يي، وفق ما أفادت به «بلومبيرغ».
وشملت رحلة تساي إلى أميركا الوسطى، كلّاً من غواتيمالا وبليز، في محاولة لمنع مزيد من الخسارات الديبلوماسية، في أعقاب قرار هندوراس التخلّي عن علاقاتها مع تايوان لمصلحة إقامة صلات مع الصين، والذي سبقتها إليه كلّ من نيكاراغوا، السلفادور، جمهورية الدومينيكان، بنما وكوستاريكا. ويعزو بعض المحلّلين هذا التحوّل، إلى البرامج الاستثمارية والقروض الضخمة التي قدّمتها الصين لهذه الدول، إذ وقّعت هندوراس - مثلاً - اتفاقاً مع شركة «بناء الطاقة الكهرومائية» الصينية، قيمته حوالى 300 مليون دولار، لتشييد سدّ لتوليد الطاقة الكهرومائية. ومن هنا، ثمّة اعتقاد بأن «تايوان ربّما خسرت اللعبة الطويلة في منطقة تخضع بشكل متزايد للنفوذ الصيني»، بحسب موقع "فويس أوف أميركا". ويَعتبر جون تيوفيل دراير، أستاذ العلوم السياسية في جامعة «ميامي» الأميركية، الذي تحدّث إلى الموقع، أن «هذه الدول رمزية. لا أعتقد أن تايوان تريد أن تفقد أيّاً منها. ولكن، إذا كانت الصين ستنغمِس في ديبلوماسية الشيكات، لا أعتقد أن تايوان قادرة على المنافسة». وتبيّن أرقام معهد «السلام الأميركي»، أنه بين عامَي 2005 و2020، «استثمرت الصين أكثر من 130 مليار دولار في أميركا اللاتينية»، بعدما ازداد حجم التبادل التجاري بينها وبين دول تلك المنطقة بشكل كبير، فيما يُتوقع أن يتجاوز الـ700 مليار دولار بحلول عام 2035.
وفي أعقاب قرار هندوراس الأخير، لم يبق لتايوان إلّا 13 شريكاً ديبلوماسياً، نصفهم في أميركا اللاتينية: بليز، غواتيمالا، باراغواي، هايتي، سانت كيتس، نيفيس، سانت لوسيا، سانت فنسنت وجزر غرينادين. ويرى مراقبون أن تمسُّك تلك الدول بعلاقاتها بتايبيه، يعود إلى حسابات اقتصادية مرتبطة بمشاريع استثمارية وتنموية تكون مشروطة من جانب تايوان بالحفاظ على الصِلات معها. مع هذا، تتتالى الخسائر الديبلوماسية التايوانية، إذ نقلت «رويترز» عن مسؤولين أميركيين، قولهم إن «باراغواي قد تكون الحليف الديبلوماسي التالي الذي ينقلب على تايوان لمصلحة الصين»، خصوصاً في حال فوز المعارضة الباراغوانية في الانتخابات المقرّرة نهاية الشهر الجاري. ورأت أن «مزيداً من التآكل لمعسكر تايوان، سيكون بمثابة ضربة أخرى للولايات المتحدة، وعلامة جديدة على البصمة الصينية المتنامية في جوار واشنطن».