في عام 2014، وقّعت حكومة الرئيس التركي، رجب طيب إردوغان، اتّفاقاً مع رئيس إقليم كردستان العراق، مسعود بارزاني، يقضي بتصدير النفط المستخرَج من الإقليم إلى الخارج، عبر أنبوب النفط المارّ في تركيا، والصهاريج، وصولاً إلى ميناء جيحان على البحر المتوسط. اتفاقٌ لاقى اعتراضاً من جانب حكومة بغداد المركزية، ذلك أنه أُتمّ من دون موافقتها، غير أن أنقرة لم تبالِ بالاعتراض المذكور، ما دفع الحكومة العراقية إلى تقديم شكوى إلى محكمة التحكيم التابعة لـ«غرفة التجارة العالمية»، ومقرّها في باريس، تطالب فيها بوقف تهريب النفط الكردستاني، وتدفيع تركيا تعويضاً بقيمة 30 مليار دولار بدل خسائر. وبعد مرور تسع سنوات، قضت المحكمة، في 25 آذار الفائت، بوقْف تصدير النفط من شمال العراق، وتدفيع أنقرة تعويضاً لبغداد قيمته 1.4 مليار دولار فقط.على أن الحُكم الآنف لم يُعجب العراق، بالنظر إلى أن «التعويض» المفروض على تركيا، قليل جدّاً، فيما رأت أنقرة في القرار انتصاراً، ليس بسبب ضآلة المبلغ الذي ستدْفعه فقط، بل لأنها كانت تعتقد أيضاً بأن غرامة تصل إلى 10 مليارات دولار ستكون، قياساً إلى ما تطالب به بغداد، ممتازة. ويُنظر في تركيا إلى هذا «الإنجاز» على أنه نتيجة الجهود التي بذلها مكتب محاماة «كينغ وسبالدينغ» الأميركي، الذي كلّفته الدولة الدفاع عنها في محكمة التعويضات. وما ساهم أيضاً في خفض كلفة العقوبة، واقعُ أن العراق لم يقُم بدوره بإصلاحات دوريّة لخطّ أنابيب النفط. وفي هذا الإطار، يقول محمد علي غولر، في صحيفة «جمهورييات»، في مقالة بعنوان «نهاية الشراكة في النفط المهرّب»، إنه ثبُت أن النفط العراقي كان أيضاً يُهرّب، منذ عام 2013، عبر صهاريج إلى تركيا، حيث يتمّ تخزينه باسم مسعود بارزاني، ومن ثمّ يُصدّر إلى إسرائيل من ميناء جيحان، بعد أن يُنقل بحاويات بحريّة إلى أخرى تقف في عرض البحر، ثَبت أنها تابعة لشركة «بالمالي شيبينغ» التي تعمل على خطّ تركيا - اليونان - إسرائيل. وإذ تفيد التقديرات العراقية بأن الدولة خسرت، من جرّاء تهريب النفط، 34 مليار دولار، فقد دعت بغداد، أنقرة، سابقاً، إلى تطبيق اتفاق عام 2010، وهو تحديث لآخر وُقّع عام 1973، تاريخ بدء العمل بخطّ أنبوب كركوك - يومورطاليك. ووفق غولر، فإنه، على رغم ذلك، لم تستجب أنقرة للمطلب العراقي، بل مضى إردوغان إلى إبرام اتفاق أحادي الجانب - مدّته 50 عاماً قابلة للتجديد - مع بارزاني في عام 2014، بدفع من الولايات المتحدة.
وفي أعقاب ذلك، تدفّقت شركات النفط التركية للعمل في شمال العراق، فيما بيعت أوّل شحنة مهرّبة في 22 أيار 2014. لكن، مع دخول تنظيم «داعش» واحتجازه موظّفي القنصلية التركية في أربيل، في 9 حزيران من ذلك العام، اهتزّ وضع رئيس الوزراء العراقي، نوري المالكي، فاستغلّ بارزاني الفرصة، لينتقل بتصدير النفط من مرحلة الصهاريج إلى مرحلة خطّ أنابيب كركوك - يومورطاليك، وكلّ هذا بموافقة حكومة إردوغان ورعايتها. ويرى غولر أن «بارزاني كسب، والشركات التركية المحميّة من سلطة إردوغان كسبت، وإسرائيل كسبت، أمّا الذي خسر فهو المواطن العراقي والدولة العراقية، وكذلك المواطن التركي الذي سيدفع من جيبه عقوبة الشكوى العراقية، وهي مليار و400 مليون دولار». وفي «جمهورييات» أيضاً، يكتب النائب السابق، مصطفى بلباي، بعنوان «من النفط الأسود إلى التجارة السوداء»، متسائلاً: «هل يمكن بعد صدور نتيجة الشكوى العراقية، أن نتحدّث عن تركيا كدولة قانون؟»، مشيراً إلى أن شركة «باور ترانس» التركية التي كانت تدير تجارة التهريب حصراً، تأسّست في عام 2011، فيما أصحابها معروفون، وفي مقدّمهم صهر إردوغان، برات ألبيرق، الذي أصبح لاحقاً وزيراً للمالية، وصهره الآخر ضياء إيلغين، وصديقه حسن يشيل داغ. ويكشف بلباي أن «خط كركوك - جيحان كان يُصدِّر يوميّاً 350 ألف برميل من النفط تذهب إلى سواحل مالطا، ومنها إلى الأسواق العالمية».
مَن كان وراء مشروع اتفاق تهريب النفط بين إردوغان وبارزاني هو الولايات المتحدة


ويذكر مراد يتكين، من جهته، أن اتفاق عام 2010 المحدّث، لحظ إضافةَ جملة، وهي أن «تركيا تستورد النفط حصراً من شركة تسويق النفط (somo) التابعة للدولة العراقية... ولو لم تكن هذه العبارة المضافة موجودة، لَمَا تعرّضت تركيا لخسارة الشكوى العراقية ضدّها». والجدير بالذكر، هنا أيضاً، أن وزير الطاقة التركي في حينه، كان تانر يلدز، فيما نظيره العراقي الذي أصرّ على إضافة الجملة المُشار إليها، كان حسين الشهرستاني. وفي أعقاب صدور العقوبة ضدّ أنقرة، طلبت الأخيرة وقْف تصدير النفط الكردستاني عبر خطّ الأنابيب إلى حين بحْث القضيّة برمّتها، فيما تَوجّه وفد منها إلى بغداد على أمل استئناف التصدير، علماً أن الحكومة العراقية المركزية وحكومة كردستان اتّفقتا، بالفعل، أوّل من أمس، على معاودة الضخّ الذي كان تعليقه يهدّد بخروج 500 ألف برميل نفط يومياً من مسرح تجارة النفط العالمية، ما كان سيؤدّي بدوره إلى ارتفاع في أسعار الخام. على أن الغريب، وفق يتكين، أنه قبل صدور قرار التحكيم بأيّام قليلة، زار رئيس الوزراء العراقي، محمد شياع السوداني، تركيا، ووقّع اتّفاقات مع إردوغان، واتّفق معه على زيادة كميّات مياه دجلة الذاهبة إلى العراق لمواجهة الجفاف هناك، بل وطلب منه، بحسب مصادر ديبلوماسية، توقيع اتفاق غاز مع بغداد مباشرة، وليس مع أربيل. ويرى الكاتب أن الولايات المتحدة تنظر بعين القلق إلى احتمال وقْف تدفُّق النفط عبر خطّ كركوك - يومورطاليك، في هذه الفترة من الحرب في أوكرانيا، على اعتبار أن ذلك سيقوّي إيران التي دخلت في اتّفاق مصالحة مع السعودية برعاية صينية، وهو ما يعكس أهميّة خطوط أنابيب النفط في تأسيس توازنات جديدة في المنطقة.
من جهتها، تكتب ديليك غونغور، في صحيفة «صباح» الموالية، أن تركيا ستعترض على قرار المحكمة، موضحةً أن العراق لم يكن يُصلح خطّ الأنابيب عندما يتعرّض لعمليات تخريب، ولهذا، طالبت أنقرة هي الأخرى بتعويض تبلغ قيمته 1.3 مليار دولار، إلّا أن محكمة التعويضات حكمت في النهاية عليها، ولم تَقبل طروحاتها. وبحسب الكاتبة، فإن الحكومة التركية «ليست مسؤولة عن مبيعات النفط التي تستفيد منها الشركات النفطية، بل إدارة إقليم كردستان. تركيا كانت مجرّد وسيط، فيما الأرباح تذهب إلى الأحزاب في شمال العراق»، ومن هنا، فإن «تركيا ربّما تكون في صدد الاعتراض على قرار المحكمة في باريس». وفي التداعيات، تلفت غونغور إلى أن إدارة إقليم كردستان ستتأثّر بالأحداث الراهنة، لأن مدخولها المالي مرتبط بالكامل بالنفط، فضلاً عن أن حكومة بغداد هي التي ستحدِّد كيفيّة تصدير النفط الكردستاني والجهات التي سيصدَّر إليها، وفق ما ينبئ به الاتّفاق المعلَن بين الجانبَين، والذي ينصّ على وضع الإيرادات في حساب موحَّد ومراقَب من كليهما. فهل ستلتزم تركيا بالأصول القانونية في استيراد النفط من العراق، أم سيبقى التهريب قائماً عبر أكثر من وسيلة لمصلحة أكثر من طرف، سواءً في أنقرة أو أربيل أو تل أبيب؟