لندن | جاءت نتيجة الانتخابات العامّة في فنلندا، التي أُجريت الأحد الماضي، متقاربة لناحية توزُّع الأصوات بين أكبر ثلاثة أحزاب في البلاد، لكن الفروق الضئيلة كانت كافية لتَحْسم مصير رئيسة الوزراء، سانا مارين، وحزبها «الديموقراطي الاجتماعي» (يسار الوسط)، خارج المنافسة لجهة قيادة تشكيل حكومة ائتلافية مرّة أخرى. وحصل «الديموقراطي»، إثر انتهاء عمليّات الفرز، على 19.9% من الأصوات، وحلّ في المركز الثالث خلف حزب «التحالف الوطني» (يمين الوسط)، الذي فاز بنسبة 20.8%، وحزب «الفنلنديين» (يمين)، الذي حصل على نسبة 20.1%. وعلى رغم أن النسبة التي حصل عليها «الديموقراطي الاجتماعي» جاءت أكبر مقارنة بما حازه في الانتخابات العامّة السابقة (2019)، التي جاءت بمارين إلى السلطة، إلّا أن المقاعد الثلاثة الإضافية التي كسبها في البرلمان، لم تكن كافية لتجديد رئاسة زعيمته. وسارعت مارين فور إعلان النتائج، إلى الاعتراف بالهزيمة، قائلةً: «لقد أدلى الشعب الفنلندي بصوته، والاحتفاء بنتائج العمليّة الديموقراطية هو دائماً أمر رائع».وبما أن التقليد في هلسنكي يقضي، عندما لا يحصل أيّ من الأحزاب على الغالبيّة، بأن يتولّى أكبر حزب في البلاد محادثات تشكيل حكومة ائتلافية، يستعدّ بيتيري أوربو، زعيم «التحالف الوطني»، ليصبح رئيس الوزراء المقبل، من دون أن يتّضح بعد الشكل الذي ستتّخذه المحادثات في شأن تقاسم الحقائب الحكومية، وإنْ كانت التوقعات تشير إلى تحالف يميني واسع سيشمل تحت مظلّته الأحزاب الكبيرة والصغيرة معاً، على رغم بعض التباينات في مسائل مِن مِثل: سياسات الهجرة، والعلاقة مع الاتحاد الأوروبي. وفيما لم تأتِ نتيجة الانتخابات مفاجئة على المستوى المحلّي، إلّا أن سقوط مارين جاء كما تراجيديا صادمة في الأجواء الليبرالية الغربية، بعدما لعبت هذه الشابة (37 عاماً)، وفق قواعد اللعبة الغربية تماماً، سواء في ما يتّصل بإدارة وباء «كورونا»، أو دعم أوكرانيا، لتتوّج عهدها بانضمام بلادها إلى عضوية «حلف شمال الأطلسي»، بعد عقود طويلة من اتّباع سياسات أقرب إلى الحياد.
ومع ذلك، فإنّ أيّ مطّلع على المشهد المحلّي في فنلندا، خلال الأشهر الأخيرة، لم يكن ليتوقّع أقلّ من سقوط مدوّ للائتلاف الحكومي الذي يقوده يسار الوسط، إذ أشارت استطلاعات الرأي، بشكل منتظم، إلى تقدُّم الأحزاب اليمينية، سواء الأقرب إلى الوسط أو الأكثر تطرّفاً، بناءً على برامج عكست قلق الناخبين من التضخّم المتصاعد، وارتفاع مستويات الإنفاق العام لتمرير الوقت. ويرى كثير من الفنلنديين في مارين شخصيّة استقطابيّة غير جديرة بالثقة، وإنْ تمتّعت بشعبيّة بين الأجيال الجديدة المنفتحة. وتواجه فنلندا، كما معظم دول الغرب، حالة من التضخّم غير المسبوق منذ الحرب العالمية الثانية، وإرهاصات ركود نتيجة للحرب الأوكرانية وانعكاساتها السلبيّة على مجمل القارة الأوروبية. ولم تُقنع سياسات مارين القائمة على التوسّع في الإنفاق العام لمواجهة الضغوط، أغلب الفنلنديين الذين وَجدوا في طروحات اليمين بديلاً أكثر إقناعاً. وخارجيّاً، دَفعت مارين بأجندة ليبرالية متطرّفة، لكن حزبها اقترب إلى اليسار الشعبوي داخليّاً في إطار سعيه إلى التمايز الأيديولوجي عن أحزاب اليمين، وهو أمر غير معتاد في التاريخ الاسكندينافي الحديث، حيث كانت معظم الاختلافات بين الأحزاب الرئيسيّة دائماً حول التفاصيل التقنية، لا الفلسفة السياسية. وقد أرادت مارين تحقيق نموّ اقتصادي عبر زيادة مستويات الإنفاق العام، وألقت باللوم في شأن ارتفاع مستويات الدين الحكومي، على جائحة «كوفيد-19»، وانعكاسات الحرب في أوكرانيا. في المقابل، يريد خصومها في اليمين خفْض الإنفاق لتقليص ديون فنلندا إلى مستوى الناتج المحلّي الإجمالي، من 73% حاليّاً، أي أقلّ من متوسّط دول الاتحاد الأوروبي، إلى ما يقرب من هدف بروكسل (مقر مفوّضيّة الاتحاد) البالغ 60%.
يستعدّ بيتيري أوربو، زعيم حزب «التحالف الوطني»، ليصبح رئيس الوزراء المقبل


على أن تغيُّر كيمياء الائتلاف الحاكم في اتّجاه اليمين لا يعني بالضرورة توقُّع حدوث تغييرات جذرية في السياسة الخارجية الفنلندية في شأن التموضع وراء الولايات المتحدة في الصراع الدائر على الأراضي الأوكرانية، أو مسألة عضوية فنلندا في «الناتو»، إذ إن الأحزاب الرئيسيّة، مهما تفاوتت مواقعها على الطيف الأيديولوجي، تظلّ متطابقة في رؤيتها حول السياسة الخارجيّة للبلاد، مع استثناء محدود لحزب «الفنلنديين» المعادي للهجرة. وتشهد هلسنكي أكبر تغيير في سياستها الخارجية منذ عقود، مع انضمامها إلى «الناتو» بعد تجاوزها الأسبوع الماضي آخر عقبة كانت أمامها، بموافقة البرلمان التركي - تتطلّب قواعد الانضمام مصادقة الدّول الأعضاء كافّةً -، لكن الحملات الانتخابية لكلّ الأحزاب الكبرى كانت متمحورة بشكل شبه كلّي حول التمايز في شأن أنجع الوسائل للتعامل مع الهموم الاقتصادية، في موازاة تطابق في المواقف حول الشؤون الخارجية، ولا سيما لجهة عضوية «الناتو»، ودعْم أوكرانيا ضدّ روسيا.
وكانت مارين التي انتُخِبت رئيسة للوزراء في عام 2019، مثيرة للجدل دائماً. إذ بعد انتخابها بفارق ضئيل من التأييد في سياق تنافس حزبي داخلي، استفادت سريعاً من عزلة فنلندا الجغرافية وتباعد سكّانها (5.5 ملايين نسمة) للظهور كشخصيّة ناجحة في أوروبا في استيعاب الجائحة، بعدما برزت فنلندا كواحدة من أقل الدّول الأوروبية تضرّراً من الوباء. وقد استبعدت رئيسة الوزراء السابقة، التي تعرّضت لانتقادات في بداية عهدها على أرضيّة انعدام خبرتها السياسية، مبدأ التخلّي عن النهج التاريخي للبلاد في المحافظة على الحياد للانضمام إلى عضويّة «الناتو»، لكنّها إثر انطلاق الحرب في أوكرانيا، تحوّلت إلى أكثر الفنلنديين حماسة لإنهاء تلك السياسات المتوازنة والانضمام إلى الحلف العسكري الذي تقوده واشنطن، وكانت شديدة الحرص على إرضاء الجانب التركي - الجهة الوحيدة التي تحفّظت على طلب فنلندا الانضمام. وأثارت رئيسة الوزراء جدلاً في كييف هذا الشهر، عندما قالت إن حكومتها تفكّر في إرسال طائرات مقاتلة من طراز «هورنيت» إلى أوكرانيا بمجرّد إخراجها من الخدمة، ما أثار امتعاض أعضاء آخرين في ائتلافها المكوّن من خمسة أحزاب، وكذلك الرئيس الذي يقود السياسة الخارجية الفنلندية. وبدا أن رئيسة الوزراء لم تشاورهم في خطوة سترضي الأميركيين حتماً، لكنّها بالتأكيد لن تكون موضع ترحيب في موسكو التي أغضبها قرار هلسنكي الانضمام إلى «الناتو» بما يعنيه ذلك من وضع قوّات تأتمر من واشنطن على حدودها مباشرة.
تشكيل ائتلاف حاكم جديد في فنلندا سيكون من دون شكّ، مهمّة شديدة الصعوبة مع تشتُّت أصوات الناخبين، لكن المؤكد والحاسم، الآن، هو أن سقوط حكومة مارين سينهي دورها الشخصي، كما دور اليسار، حليف «الناتو»، في إدارة الشؤون الفنلندية العامّة لعدة سنوات مقبلة، وعلى الأغلب لعقد كامل.