«كآوس»، أو الربّة الأوليّة للكون في الأساطير الإغريقية الغابرة، تحيل إلى الظلام والفراغ غير المحدودَين، حيث يوجد السديم الذي منه انبعث أوّل شيء وكلّ شيء. يستحضر الإسرائيليون «الربّة» كتعبير عن «التوهو فافوهو» أو الفوضى والتيه الشاملَين، لوصف الفراغ والظلام الذين آل إليهما الحلم الصهيوني، وصولاً إلى تشبيه الطريقة التي يَجري من خلالها الدفاع عن هذا الحلم اليوم بين أخوين ينهشانه، بغربان «تتناتش» جثة.لم تكن التظاهرات العاصفة ليلة الأحد - الإثنين سوى عيّنة ممّا قد تفضي إليه حالة التناحر والانشقاق العمودي الذي اختصر أخيراً عقوداً طويلة من الخلافات المتأصلة بين «أسباط» إسرائيل. تجلّى التصعيد في مظاهر التخريب والتكسير التي اجتاحت شوارع المدن الرئيسة، ووصول المتظاهرين إلى شارع غزة في القدس، على بعد أمتار قليلة من مقرّ رئيس الوزراء، بنيامين نتنياهو، الذي دفع بقادة جهاز الأمن الداخلي «الشاباك» إلى التدخل، في وقتٍ ينشغل هذا الأخير بحالة المقاومة المتصاعدة في الضفة الغربية والقدس المحتلّتَين. واضطرّت «الوحدة 730» الأمنية لإخراج عائلة نتنياهو إلى مقرّ «الشاباك» في القدس، بعدما تجاوز المتظاهرون في تلك الليلة الحواجز حول منزله، فيما عبّر مسؤولون كبار في الشرطة عن قلقهم إزاء «فقدان السيطرة».

أحداث تلك الليلة كانت مفصليّة بالنسبة للمسار الذي سيقرّر نتنياهو سلوكه. فقد تلقّى الأخير «طعنة في الظهر» من وزير الأمن، وأحد صقور «الليكود»، يوآف غالانت، عندما قرّر الخروج في مؤتمر صحافي خلافاً لرغبة رئيسه، والدعوة إلى وقف خطّة «الإصلاح القضائي»، بينما كان رئيس الوزراء يتابع زيارته في العاصمة البريطانية لندن. حدا ذلك بنتنياهو إلى إقالة غالانت، في محاولة لإظهار نفسه ممسكاً بزمام الأمور وصاحب الكلمة العليا. غير أنه إمّا لم يتوقع حدّة انفجار الشارع، وإمّا كان يقرّر انطلاقاً من حالته النفسية -العقلية. وفي هذا الإطار، اعتبرت صحيفة «يديعوت أحرونوت» أنه «حان الوقت لأن يُبلغ نتنياهو الجمهور ليس فقط عن صحّته الجسدية، ولكن أيضاً عن حالته العقلية، بما في ذلك الحبوب التي يتناولها. يحقّ للمواطنين أن يعرفوا تحت تأثير ماذا أو من يخضع رئيس حكومتهم»، مضيفةً أنه «لا توجد طريقة أخرى لشرح أحداث اليوم الأخير (ليل الأحد - الإثنين) إلا كحالة ذهنية (تحكّمت بقرارات نتنياهو)». فبعد كلّ مشاهد تلك الليلة، قرّر رئيس الوزراء «الوقوف بقوة ضدّ العصيان» كما كتب في تغريدة على صفحته في موقع «توتير»، قبل أن يتراجع في «الدقيقة الـ90».
كل هذا ظلّ في كفة، حتى انبلج فجر الإثنين، وانتهت لجنة الدستور والقانون من التصويت على الصيغة «المخفّفة» من مشروع قانون تعيين قضاة المحكمة العليا، مجهزّةً إياه للتصويت بالقراءات المختلفة في الهيئة العامة لـ»الكنيست». وكأنه لم يكن ينقص المعسكر المعارض إلّا تقدّم إضافي في انقلاب معسكر «المؤمنين» لتصعيد «ثورتهم» الهادفة إلى استرجاع «إسرائيل اليهودية الديموقراطية - اللبيرالية» التي ينازعون لأجلها. وفي غضون ساعات قليلة فقط، شُّلت إسرائيل تماماً؛ إذ للمرّة الأولى منذ ثلاثة شهور على بدء التظاهرات، قرّرت «الهستدروت» (اتحاد النقابات العماليّة) الانضمام إلى الاحتجاجات ضدّ الإصلاحات القضائية. قرار دراماتيكي بدا أشبه بقنبلة عنقودية لم تسلم من آثارها أيّ مؤسّسة. فقد «احتُجز» 73 ألف مسافر في «مطار بن غوريون» بعدما توقّفت فيه حركة الملاحة الجوية بانضمام شركات الطيران وعامليها إلى الإضراب، ومثلها فعل عمّال شركة الكهرباء، وميناءي حيفا وأسدود البحريين، إضافة إلى الفنادق والمطاعم والكافيهات، وصولاً إلى المجمّعات التجارية الضخمة والمولات، ومراكز التسوّق، فضلاً عن الجامعات والمدارس، والسلطات المحلية، وقبلها شركة «رافئيل» للصناعات الحربية، وسفارات إسرائيل حول العالم، وغيرها الكثير من الأجسام والمؤسّسات الحيوية.
أعطى نتنياهو الإسرائيليين «حقنة تحت الجلد»


انضمام هذه المؤسّسات إلى الإضراب أتى بالتوازي مع تصاعد حالة الغليان في الشارع الإسرائيلي، فيما ظهرت حكومة نتنياهو فاقدة للسيطرة ومرتبكة. إذ خاض أطرافها مداولات ساخنة شملت من بين أمور كثيرة اقتراح الاستفتاء العام على الخطّة، وأفضت في النهاية إلى خروج نتنياهو، تحت وطأة ابتزاز كبير مارسه ضدّه وزير «الأمن القومي»، إيتمار بن غفير، بخطاب أمام الإسرائيليين أعلن فيه تجميد الخطّة إلى ما بعد العطلة الشتوية لـ»الكنيست» (أي إلى الـ30 من نيسان المقبل)، داعياً إلى البدء في حوار مع المعارضة للتوصّل إلى تسوية. وقبيل خطابه، أعلن بشكل مبطن دعمه لتظاهرات أنصاره؛ إذ دعا اليمين و«اليسار» على حدّ سواء إلى نبذ مظاهر العنف في التظاهرات التي دعت إليها التنظيمات اليمينية وفي مقدّمتها تنظيم «لا فاميليا»، وزعيما «الصهيونية الدينية» و«عوتمساه يهوديت» بتسلئيل سموترتش وإيتمار بن غفير، في القدس وتل أبيب للتعبير عن تأييد «الانقلاب القضائي» بوجه المعارضين من مئات آلاف المحتجين.
من جهته، كشف بن غفير أنه حتى في ظلّ عدم التوصّل إلى تسوية خلال مهلة الشهر (العطلة الشتوية) مع المعارضة، فإن تمرير التشريعات سيستمرّ مع بدء الدورة الصيفية. وقال، في بيان مقتضب، إنه «وافق على التخلّي عن حق النقض (الفيتو) على إرجاء التشريعات، مقابل التزام من نتنياهو بتمريرها خلال الدورة الصيفية للكنيست حتى إذا لم يتمّ التوصّل إلى اتّفاق مع المعارضة». ولم يتنازل بن غفير إلا بعدما تلقّى أيضاً ضوءاً أخضر من نتنياهو لإقامة ميليشيات مسلحة تحت مسمّى «الحرس القومي» بهدف قمع فلسطينيّي الداخل. وبالعودة إلى قانون تعيين القضاة بصيغته المخفّفة، فقد أعلن نتنياهو في خطابه أنه «انطلاقاً من الرغبة في منع شقاق واسع في الأمة، قررتُ تأجيل القراءتين الثانية والثالثة من أجل التوصل إلى توافق واسع في الآراء»، مؤكداً أن قراره أتى بالتنسيق مع شركائه في الائتلاف الحكومي.
على المقلب الآخر، وبينما ظهر قادة العسكر المعارض خلال التظاهرات في خطابات حازمة أكدوا من خلالها نيتهم البقاء في الشارع إلى حين «الوقف الفعلي لعملية التشريع وصولاً إلى إقرار دستور»، تراجع هؤلاء خطوة إلى الوراء عقب خطاب نتنياهو؛ إذ أعلن زعيم المعارضة، يائير لابيد، أن معسكره «بحاجة إلى التأكد من أن نتنياهو لا ينغمس في التحايل والخديعة»، في إشارة إلى «التجربة السيئة معه في الماضي». مع ذلك، قال إنه «إذا خاضت الحكومة حواراً حقيقياً وعادلاً، فيمكننا الخروج من لحظة الأزمة هذه أقوى وأكثر اتحاداً، ويمكننا تحويل ذلك إلى لحظة حاسمة في قدرتنا على العيش معاً». أمّا وزير الأمن السابق، بيني غانتس، فأظهر مرونة أكبر بترحيبه بقرار نتنياهو، قائلاً: «سأبقى معارضاً لهذه الحكومة لكنني سأدعم الحوار». وأضاف أنه «سيعمل من أجل التوصّل إلى اتفاق إذا كانت الحكومة صادقة». لكن زعيمة حزب «العمل»، ميراف ميخائيلي، رأت أن خطاب نتنياهو «مليء بالأكاذيب والتحريض ولا يجب أن نقع في فخّه»، معتبرةً أن رئيس الحكومة «يكسب الوقت على حساب ديموقراطيتنا، يجب أن يستمرّ الاحتجاج ويتعزز». وتقاطع موقف ميخائيلي مع موقف قادة الاحتجاج في الشارع، إذ أعلن هؤلاء، طبقاً لموقع «واينت»، نيتهم التظاهر اليوم، ويوم السبت المقبل، وخصوصاً في «كبالان»، مركز التظاهرات، من أجل «استعادة الديموقراطية». من جانبه، لم يقف وزير الأمن المُقال، يوآف غالانت، مكتوف الأيدي، بالرغم من تجاهل نتنياهو له خلال خطابه الذي بُثّ في ساعة الذروة. وقال في تغريدة له على موقع «توتير»: «أرحب بقرار وقف التشريعات لمصلحة الحوار»، فيما أعلن رئيس «الهستدروت»، أرنون بار ديفيد، إلغاء الإضراب الذي أعلن عنه صباح أمس، مشيداً بقرار نتنياهو، وعارضاً في الوقت نفسه «المساعدة في وضع تعديلات تحظى بتوافق واسع».
في المحصّلة، أعطى نتنياهو الإسرائيليين «حقنة تحت الجلد» بظهوره كمن تراجع خطوة إلى الوراء، على اعتبار أن الشرخ في المجتمع الإسرائيلي وصل إلى مستويات محظورة وخطيرة. على أن إبرته هذه هي تعبير إضافي عن شرائه الوقت بغية الإيغال في مشروع السيطرة على مؤسّسات الدولة وإحكام القبضة. مشروع سيُستأنف مع نهاية الشهر المقبل، عندما يعود وشركاؤه من العطلة للهيمنة على كلّ ما يرونه «معوقاً» و«عقبة» أمامهم.