تمرّ إسرائيل بأزمة داخلية غير مسبوقة، وصلت إلى حدّ تحذير الرئيس الإسرائيلي، يتسحاق هرتسوغ، من أنها قد تتسبّب بحرب أهلية، قيل إنها لن تُبقِي للدولة الإسرائيلية أثراً. فعلى جانب من المتراس، يتربّص الائتلاف الحكومي برئاسة بنيامين نتنياهو، المتشكّل من حزب «الليكود» والأحزاب الدينية من «حريديم» وصهاينة قوميين، في مقابل معارضين من أحزاب يَغلب عليها الطابع العلماني (الوسطية واليسار)، وتضمّ كذلك أحزاباً يمينية، على خصومة مع نتنياهو. وفي تفاصيل الخلاف، قدّمت الحكومة، بعد ستّة أيام على تشكيلها، أي في الرابع من كانون الثاني الماضي، مشاريع قوانين لإدخال تعديلات على النظام القضائي الإسرائيلي، على أن تلحق بها مشاريع أخرى، تمهيداً لتعديلات كان يُفترَض أن تطاول أنظمة أخرى في الكيان. مشاريع التعديلات هذه واكبتها معارضة واسعة من القوس السياسي في إسرائيل، ممَّن هم خارج الائتلاف، وأيضاً من مسؤولين سابقين ونخب وخبراء، انضمّ إليهم معظم الإعلام العبري، ليقودوا جميعهم حركة احتجاجية عبّرت عنها اعتصامات وتظاهرات دوريّة في تل أبيب ومدن أخرى، اعتراضاً على التعديلات الحكومية التي وصفوها بـ«الانقلاب على نظام الحكم والديموقراطية».

ومع اقتراب استحقاق إقرار التعديلات في «الكنيست»، بأغلبية بسيطة تحوزها الحكومة، توسّعت الاحتجاجات وتعاظمت، فيما استطالت قائمة رافضي التعديلات، والذين انضمّ إليهم أعضاء «كنيست» من «الليكود»، على رأسهم وزير الأمن يوآف غالانت، الذي أُقيل لاحقاً على خلفية معارضته. لكن ما هي هذه التعديلات؟ وهل تستأهل كلّ هذا الاحتجاج عليها أو كلّ ذلك التمسّك بها في المقابل، وإلى الحدّ الذي يتسبّب بتصادم سياسي واجتماعي، ويتهدّد بتفكيك مؤسّسات من بينها مؤسّسة الجيش؟
تهدف التعديلات إلى الحدّ من صلاحيات القضاء، عبر منْعه من إبطال قوانين يسنّها «الكنيست»، وذلك على خلفيّة معارضة الثاني القوانين الأساسية (أو ذات المكانة الدستورية) أو مبادئ قانونية عَمَدت «المحكمة العليا» إلى اتّباعها لإبطال مشاريع بعينها، لاعتبارات معظمها مبنيّ على حقوق الإنسان وحرية التعبير ومعقولية استخدام السلطة والتمييز… وغيره. إضافة إلى ما تقدَّم، تهدف التعديلات إلى تغيير طريقة اختيار وتعيين القضاة، وفي المقدّمة قضاة «المحكمة العليا»، من خلال تغيير تركيبة أعضاء لجنة التعيين، على أن تكون للائتلاف الحاكم الكلمة الفصل في الاختيار. على أن لجنة كهذه، بحسب المعارضين، ستكون تابعة للسياسيين، وستنهي تالياً أهمّ تحصين للنظام القضائي ولاستقلاليته وعدم تبعيّته للمؤسّسة السياسية، على النقيض ممّا هو حاصل الآن، حيث للمنظومة القضائية نفسها القدرة على التأثير بشكل كبير جداً في تعيين قضاتها.

تهدف التعديلات إلى الحدّ من صلاحيات القضاء، عبر منْعه من إبطال قوانين يسنّها «الكنيست»


لكن هل تنذر هذه الخطّة فعلاً بحرب أهلية؟ الواقع أن محاولة إدخال التعديلات الآنفة، وكذلك محاولة منْعها، تُعدّ تعبيراً عن واقع انقسام حادّ داخل «مجتمع المجتمعات» الإسرائيلية إن صحّ التعبير، حيث تقوم المحكمة العليا بدور رئيسيّ في إدارة الانقسام ولجْم تداعياته، عبر موازنة المصلحة العامة والتوازن الاجتماعي، ومنْع انتهاك أيّ مكوّن لحقوق المكوّنات الأخرى، أو فرْض إرادته عليهم. ووفق ما يراه معارضو «الانقلاب»، فإن كفّ يد القضاء وتقييد صلاحياته في النظر في قوانين وقرارات تَصدر عن الحكومة و«الكنيست»، يعني إدخال القوانين في التسويات الائتلافية كشروط مسبقة لانضمام هذا الحزب أو ذاك إلى الائتلاف، حتى وإنْ كان فيها ما يضرّ بمصلحة إسرائيل الدولة، أو أحد مكوّناتها الاجتماعية. والجدير ذكره، هنا، أن أجندة المتطرّفين واسعة جدّاً، وإنْ جرت ترجمتها قوانين في «الكنيست»، من دون إمكان إبطالها، فسيتغيّر وجه إسرائيل، وستخسر الأخيرة جهة وازنة إلى جانب جهات أخرى نجحت إلى الآن في إدارة الانقسامات الاجتماعية فيها، بلا صراعات وبلا تسبّب باحتراب.
ووفق ما يعتقد - وربّما عن حقّ - علمانيّو إسرائيل، فإنه في حالة التفاوض على تشكيل الائتلاف الحكومي، سيكون للأحزاب الدينية «الحريدية» أن تطالب بسنّ قوانين تحاكي التشريعات التلمودية، فتحرّم على غالبيّة الإسرائيليين ما يرونه حقاً لهم، وتجبرهم على فعل أو الامتناع عن فعل، وفقاً للتشريعات التلمودية التي يتعذّر تطبيقها من دون تمييز وخرق لحقوق الإنسان وتجاوز للمنطق والمعقولية. ليس هذا فحسب، بل إن الأحزاب الفاشية، مِن مثل أحزاب «الصهيونية الدينية»، ترى في إيذاء الآخر لأنه آخر، جزءاً من أجندتها، فيما إقحام إسرائيل في نزاعات وحروب لتحصيل مكاسب في الأرض التي تدّعي ملكيّتها، هي قيمة عليا تتقلّص من أجلها أيّ محظورات أو خسائر، ما يؤدّي تالياً إلى التسبّب بحروب ونزاعات، يدفع الإسرائيلي ثمنها، بلا طائل.
العيّنتان المشار إليهما هنا، هما جزء من كثير، من شأنه أن يحوّل إسرائيل إلى كيان آخر مغاير، ليس فقط بفقدانها ديموقراطيتها وتمكّن فئة من الإسرائيليين، وإنْ كانوا فاشيين، من فرض إرادتهم على الإسرائيليين الآخرين، بل لأنها ستتسبّب بإخراج الانقسامات والاختلافات العرقية والاجتماعية إلى العلن، بمستوى يجعل من إدارة الانقسام ومحاصرة تداعياته أمراً صعباً. وعلى هذه الخلفية، يمكن فهم كيف أنّ تعديلاً في صلاحيات المحكمة والقضاء، ربّما يؤدّي إلى حرب أهلية. ذلك أن معضلة إسرائيل تكمن في أنها مستعصية، حتى وإنْ وُجدت تسوية للتعديلات، أو أُوقفت، أو أُزيلت من الأجندة السياسية الداخلية لإسرائيل، ما يعني أن أيّ حلّ لن يعيد الأمور إلى نصابها تماماً. وإذا استطاع التعقّل، المبنيّ على الخوف واتّساع المعارضة، إيقاف التشريعات، فإن المشكلة مرشّحة لاحقاً لإعادة إنتاج نفسها، وربّما بحدّة أكبر، كوْن الجهات الفاشية واليمينية المتطرّفة، وأتباع القوانين التلمودية للزمن السحيق، يزدادون قوّة ومكانةً وعدداً في مجتمع يتعارض مع نفسه داخلياً في كلّ شيء تقريباً. وعليه، فإن لم يكن الاحتراب واقعاً الآن، فيقدَّر تحقّقه، مع معقوليّة معتدّ بها، في المستقبل غير البعيد.