لم تَعُد المراهنة على مواجهة منخفضة التوتّر بين إسرائيل وإيران، مجدية، ذلك أن المشهد الدولي ينحو في اتّجاه تحوّلات لم تتحدَّد ملامحها بعد. وثمَّة مَن يرجّح احتمال تصاعُد «حرب الظلّ» - وفق التسمية الغربية - بين الجانبَين لتطاول المنطقة بأكملها، خصوصاً في ظلّ تعطُّل المسار الديبلوماسي لإحياء «خطّة العمل الشاملة المشتركة»، واقتراب طهران من العتبة النووية، معطوفاً على توثيق الجمهورية الإسلامية علاقاتها مع روسيا، ولا سيما على المستوى العسكري، والتي نمت إبّان الحرب المستمرّة على أوكرانيا. حتى أن رئيس الحكومة الإسرائيلية، بنيامين نتنياهو، بدأ، على هذه الخلفية، يؤطّر مخطّطاته لقصف المنشآت العسكرية الإيرانية على أنها «مساعدة» من تل أبيب في المجهود الحربي الغربي ضدّ موسكو، مع تأجيج الغزو الروسي لأوكرانيا التصعيد في المنطقة. ومع استمرار تلك الحرب، يصبح خيار «الردع العسكري» أكثر جاذبية بالنسبة إلى واشنطن وحلفائها الغربيين، وفق ما ترجّح الباحثة في «مركز بيركل للعلاقات الدولية» في جامعة «كاليفونيا»، داليا داسا كاي، في «فورين أفيرز».وعلى مدى الأعوام اللاحقة لانسحاب الولايات المتحدة، في عهد دونالد ترامب، من الاتفاق النووي، لم تهدأ المعركة المستمرّة بين الحروب. كما أن سياسة «الضغوط القصوى» التي انتهجها دونالد ترامب ضدّ الجمهورية الإسلامية، شجّعت إسرائيل على تنفيذ ضربات أكثر جرأة، طاولت أهدافاً داخل إيران - نووية وغير نووية -؛ وآخر هذه الاستهدافات، كان الهجوم على موقع تابع لوزارة الدفاع الإيرانية في مدينة أصفهان (وسط)، بطائرات هجوميّة مسيّرة. على أن عمليّات «المنطقة الرمادية» هذه تتميّز بنهج الإنكار، وهو ما دأبت إسرائيل على اعتماده في كلّ مرّة تستهدف فيها موقعاً محصّناً في العمق الإيراني، أو «شحنة أسلحة» على الحدود السورية - العراقية. ويبدو أن هجوم الطائرات المسيّرة صُمّم لـ«إيصال رسالة سياسية - استراتيجية» إلى البلد المستهدَف، يصعب «فكّ ارتباطها عن التوتّرات المتصاعدة في شأن برنامج إيران النووي، والدعم الإيراني للعدوان الروسي في أوكرانيا. وهي تشير على وجه التحديد، إلى استعداد المهاجِم (المهاجِمين) لتحمُّل مخاطر محسوبة، وإعادة رسم الحدود، وإظهار الاستعداد لاستخدام كلّ الوسائل المتاحة لإجبار قادة الجمهورية الإسلامية على مراجعة سياساتهم»، بحسب عبد الرسول ديفسلار، في «معهد الشرق الأوسط». ويرى ديفسلار أنه «لا يمكن الهجمات الصغيرة، مثل هجوم الطائرات من دون طيار على مجمع لوزارة الدفاع، أن تؤثّر بشكل ملموس على القدرات العسكرية والنووية للجمهورية الإسلامية»، لا سيما وأن طهران «واجهت هذا النوع من التخريب والضربات المحدودة لسنوات، ممّا يشير إلى فشل الأجهزة الأمنية في البلاد في حماية البنية التحتية الحيوية». وبعدما تيّقنت أن هناك صعوبة في منع مثل تلك الحوادث، «يبدو أن الكيانات الصناعية العسكرية الإيرانية اتّبعت نهجاً بديلاً: التعايش مع أن الهجمات على منشآتها ستتواصل؛ ولكنها اتّبعت خطوات فنية وإدارية مختلفة للحدّ من آثارها».
تراهن واشنطن على أن المواجهة مع إيران يمكن أن تظلّ منخفضة التوتّر


على أيّ حال، جاء الرئيس جو بايدن إلى السلطة، وفي «نيّته» اتباع نهج ديبلوماسي مع إيران، يفضي في المحصّلة إلى إعادة العمل بالاتفاق النووي المعطَّل. لكن ذلك كان في زمنٍ مضى؛ إذ تغيّرت الأحوال في كلٍّ من الولايات المتحدة وإسرائيل وإيران، ممّا زاد من مخاطر عودة التصعيد مرّة أخرى. وعلى رغم أن إسرائيل واصلت، في هذه الأثناء، هجماتها، لم تكن الإدارة الأميركية قلقة من هجمات انتقامية مقابِلة، «لأنه، كما يبدو، فإن الإيرانيين لا يهتمّون كثيراً بالهجمات الإسرائيلية بقدر اهتمامهم بتخفيف العقوبات من خلال الديبلوماسية النووية»، وفق داسا كاي. ويبدو الآن أن «الديبلوماسية نفسها لم تَعُد مطروحة على الطاولة، ليس فقط بالنسبة إلى فريق بايدن، ولكن حتى بالنسبة إلى القادة الأوروبيين، ونظرائهم الإيرانيين، لا سيما مع تطوّر قدرات طهران النووية. لهذا، لم يعد الردع العسكري مجرّد ضغط لفرض الديبلوماسية، بل أصبح الاستراتيجية التي يتبنّاها الغرب». وفي هذا الإطار أيضاً، يلفت عبد الرسول ديفسلار إلى أن «الهجمات الأخيرة حدثت في بيئة أمنية مختلفة تماماً: تكاد الآمال في إحياء «خطّة العمل الشاملة المشتركة» تموت بعد أشهر من توقّف المحادثات، فيما العلاقات بين الاتحاد الأوروبي وإيران في أدنى مستوياتها التاريخية، على خلفية المساعدة الأمنية الإيرانية لروسيا». وفي ظلّ هذه البيئة الأمنية المتغيّرة، قد تعكس الهجمات الأخيرة «رغبة مشتركة تَظهر تدريجاً بين القوى الغربية، واستعداداً لاستخدام القوّة الاستباقية لوقْف برنامج إيران النووي في حال فشلت الديبلوماسية. وفيما أَثبتت إسرائيل، مراراً، قدْرتها على تنفيذ مثل تلك العمليات بمفردها، فإن الإجماع الدولي الواسع لدعم ذلك النهج هو أمر جديد - وهو ما يجب على طهران التنبّه إليه». وممّا ساهم في «التحوّل من الديبلوماسية إلى الردع»، الاضطرابات الداخلية التي شهدتها إيران على خلفية وفاة الشابة مهسا أميني في أحد مراكز الشرطة في العاصمة طهران، والتي شكّلت عاملاً مؤثّراً جدّاً في انهيار المفاوضات النووية، فضلاً عن تطوّر العلاقات الإيرانية - الروسية. وتُرجَّح الباحثة في «فورين أفيرز» أن تؤدّي كلّ العوامل المتقدّمة مجتمعةً، إلى تصعيد المواجهة بين إسرائيل وإيران، وزيادة خطر أن يطاول الصراع بقية دول المنطقة، ممّا يعرّض القوات الأميركية في العراق وسوريا للخطر.
ومع هذا، تراهن واشنطن على أن المواجهة مع طهران يمكن أن تظلّ منخفضة التوتّر، وأنه يمكن تجنُّب اندلاع صراع ثنائي أو إقليمي أوسع. وهي تعتقد، في الوقت ذاته، أن «الردع» ضروري لمنع وإبطاء التقدُّم العسكري والنووي لإيران في غياب الديبلوماسية. وبدورها، تُراهن إسرائيل على أن العزلة الإقليمية ونقاط الضعف التي تعاني منها إيران في الداخل، فضلاً عن إجراءات الردع العسكرية الإسرائيلية - الأميركية المنسّقة، قد تحدّ من ردود الفعل الإيرانية. غير أن «التغييرات الجيوسياسية المستمرّة التي تشهدها المنطقة والعالم تتحدّى كلّ هذه الآراء». وإذا كانت إيران تحتاج بعض الوقت لتطوير سلاح نووي، فإن عدم اليقين في شأن قدراتها ونواياها سيزيد حوافز إسرائيل لاستخدام الخيارات العسكرية بشكل أكثر شراسة من أجل تعطيل البرنامج النووي. وممّا يزيد من خطورة الوضع أنه من غير الواضح ما إذا كانت لدى واشنطن القدرة أو الإرادة لكبح جماح إسرائيل العدواني. وتلفت إلى أن «الولايات المتحدة لن تكون مساعدة لإسرائيل في توجيه ضربات مباشرة داخل إيران (وهي نفت أن يكون لها يد في هجوم أصفهان)، ولكن في المناخ الحالي، من غير المرجّح أيضاً أن تبدي أيّ معارضة».
وهكذا، مع تجميد المسار الديبلوماسي، وعدم جدوى العقوبات في وقف برنامج إيران النووي ولا الحدّ من نشاطها في الإقليم، تبدو إدارة بايدن أكثر ميْلاً إلى دعْم الأعمال العسكرية الإسرائيلية، بما في ذلك تنفيذ ضربات مباشرة ضدّ أفراد ومنشآت عسكرية داخل الأراضي الإيرانية. وهي تراهن على أن المواجهة مع إيران ستبقى تحت السيطرة، وأنه في الإمكان تجنّب اندلاع صراع ثنائي أو إقليمي. وفي الوقت نفسه، تعتقد أن «الردع» ضروري لمنْع إيران من التحوّل إلى بلد نووي. لكن الردع، كما تورد داسا كاي، «ليس استراتيجية آمنة من الفشل، إذ تحتاج إدارة بايدن وشركاؤها الأوروبيون إلى الاستعداد لتحمّل العواقب عندما تتصاعد المواجهة إلى حريق قد يأكل الأخضر واليابس. ففي الوقت الذي يشعر فيه القادة الإيرانيون بأن إسرائيل أو الولايات المتحدة تسعيان لإطاحة النظام في طهران، فقد لا يظلّ الردّ الإيراني محدوداً. وليس لدى روسيا التي تحارب الغرب في أوكرانيا، أيّ سبب وجيه لمحاولة تقييد إيران. ربّما لا تكون الحرب الإقليمية وشيكة، لكن التصعيد العسكري الذي تدفع إليه واشنطن وتل أبيب خطير جدّاً، ويمكن أن يؤدّي إلى تداعيات خطيرة قد لا يقوى أحد على تكاليفها التي ستكون طويلة الأجل». يقول ريتش غولدبيرغ، كبير مستشاري «مؤسسة الدفاع عن الديموقراطيات»، ومقرّها في واشنطن، إن ما يصفها بـ«الحملة السريّة» الإسرائيلية، قد يكون لها حدود. «إن العالم ينتظر لحظة كبيرة حين نستيقظ ونسمع عن غارات جوية إسرائيلية، لكن يبدو أن الإسرائيليين يقومون بهدوء بتطبيع حرب الظلّ التي يمكن أن تتصاعد بسهولة لتصل إلى هجوم مباشر على المنشآت النووية الإيرانية من دون أن يسارع العالم إلى القول: هناك ضربة عسكرية، علينا أن نوقفها».