يُظهر أداء الاقتصاد الروسي خلال السنة الماضية، أن موسكو استطاعت بالفعل الصمود في وجه الحصار الغربي المشدَّد عليها، وهو ما يُعزى، في جانب منه، إلى بدئها منذ أعوام العمل باستراتيجية تحوّط، عنوانها استخدام عملات بديلة في المعاملات الدولية، على رأسها اليوان. وعلى رغم ما تكتنفه هذه الاستراتيجية من مخاطر بالنظر إلى أن "اليوان لا يمكن أن يصبح عملة احتياطية كاملة"، إلّا أن ثمّة مصلحة مشتركة متزايدة في ما بين الأقطاب غير الغربية في الانفكاك من سطوة الدولار، الأمر الذي من شأنه أن يشكّل تهديداً متعاظماً للأخير، مع أنه يبقى حتّى الآن العملة العالمية المهيمنة
في عام 2018، ومع بداية ولايته الرابعة، تعهّد الرئيس الروسي، فلاديمير بوتين، بالدفاع عن سيادة بلاده الاقتصادية ضدّ العقوبات الأميركية، موطّئاً للبدء بدعم خطّة وطنية تستهدف الحدّ من انكشاف بلاده على أيّ عقوبات مستقبلية. خطّةٌ أتاحت لموسكو، بالفعل، نوعاً من الصمود "الإيجابي" في وجه الحصار الغربي غير المسبوق عليها في أعقاب غزوها لأوكرانيا. وقد قامت استراتيجية التحوّط الروسية، تلك، أوّلاً، على استخدام عملات بديلة في المعاملات الدولية، وهو ما شرعت فيه بالفعل شركات الطاقة الروسية التي استبدلت بالدولار، اليوان الصيني والذهب. أيضاً، خفّض البنك المركزي الروسي حصّة الدولارات في احتياطات النقد الأجنبي، عامداً عوضاً عنها إلى شراء الذهب واليورو واليوان، توازياً مع تخفيض استثماراته في سندات الخزانة الأميركية. ووفق أرقام صادرة عن البنك المركزي الروسي، فإنه بين شهرَي آذار وأيار 2018، انخفضت احتياطات البنك من الدولار من 96.1 مليار إلى 14.9 مليار، لتبلغ في نهاية عام 2021 نحو 3.9 مليار.
كذلك، تضمّنت الاستراتيجية الروسية مضاعفة استخدام اليوان الصيني في نواحي الاقتصاد كافة؛ إذ بحسب تقرير لـ"وول ستريت جورنال" نُشر أواخر شهر شباط الماضي، فإن مُصدّري الطاقة الروس «يتقاضون رواتبهم باليوان بشكلٍ متزايد»، فيما «صندوق الثروة السيادي الروسي» أصبح يَستخدم العملة الصينية لتخزين الثروات النفطية. ويَلفت التقرير إلى أن الشركات الروسية باتت تقترض باليوان، بينما الأُسر أضحت تُخزّن مدّخراتها به، مضيفاً أن الضغط الغربي على روسيا أدّى إلى ازدهار التجارة باليوان بينها وبين الصين، حيث أصبحت بكين مشترياً رئيساً للنفط الروسي، في حين أمْست موسكو أكثر اعتماداً على صديقتها في مجال أشباه الموصلات وغيرها من التقنيات. أيضاً، أصدرت الشركات الروسية سندات بالعملة الصينية بقيمة تُعادل أكثر من 7 مليارات دولار العام الماضي، وفقاً لبيانات نشرتْها شركة «ريفينيتيف» البريطانية. وكانت روسيا والصين اتّفقتا، عام 2019، على الارتقاء بعلاقتهما إلى مستوى «شراكة استراتيجية شاملة»، وهو ما تَبِعه اتّفاق على استخدام العملات الوطنية في التسويات الدولية بينهما.

مخاطر استبدال الدولار
لا يبدو ميزان الفوائد من استخدام العملة الصينية متوازناً بين بكين وموسكو، خصوصاً أن الأخيرة تبدو مضطرّة اضطراراً إلى هذا الخيار. إذ تَنقل «وول ستريت جورنال» عن ألكسندر غابوييف، الباحث في مؤسّسة «كارنيغي للسلام الدولي»، قوله إن «روسيا تخلّت عن مخاوفها بشأن منْح الصين نفوذاً كبيراً في اقتصادها»، بوصْف ذلك «الخيار العقلاني الوحيد»، من أجل أن تكون الأولى «أقلّ انكشافاً واعتماداً على العملات المُعادية مثل الدولار أو اليورو». ووفقاً لبيانات «المركزي الروسي»، ارتفعت حصّة الصادرات الروسية المدفوعة باليوان إلى 14%، بحلول شهر أيلول الماضي. على أن «اليوان لا يمكن أن يصبح عملة احتياطية كاملة بسبب القيود الحالية على المعاملات الرأسمالية من وإلى الصين»، وفق الباحثة في «كارنيغي»، ألكسندرا بروكوبينكو، التي توضح، في مقالٍ نُشر الشهر المنصرم، أن اليوان يشكّل 3% فقط من احتياطيات العملات العالمية، فيما يشكّل الدولار 60% واليورو 20%.
العقوبات تؤدّي إلى «نظام عملات مجزّأ متعدّد الأقطاب»


وإذ سيساعد اعتماد روسيا المتزايد على اليوان، الصين، في تحويل عملتها إلى عملة احتياطية دولية، فإن الساسة الروس "غالباً ما يخطئون التقدير في اعتبار توسّع اليوان نذيراً بانهيار الدولار"، بحسب بروكوبينكو، التي تُبيّن أن «زيادة تدويل اليوان تعني أن الحكومة الصينية بحاجة إلى المزيد من احتياطات الدولار»، مستنتجةً أن «قوّة اليوان كعملة احتياطية لا تُضعف الدولار، بل إن العملتَين تكمّلان بعضهما البعض»، وبالتالي «لا تستطيع بكين حقّاً مساعدة موسكو في حملتها ضدّ الدولار». أمّا في حال تدهور علاقات الدولتين، فإن روسيا «ستتكبّد خسائر في الاحتياطيات، وفي آليات الدفع البديلة عن نظام سويفت»، والتي كانت قد صُمّمت بعد أن وسَّعت إدارة الرئيس الأميركي الأسبق، باراك أوباما، قائمة العقوبات المفروضة على روسيا عام 2014. ومن بين تلك البدائل «نظام تحويل الرسائل المالية» (SPFS)، القائم على الروبل، والذي يفيد تقرير لمجلة «فورين أفيرز»، صدر في آذار الماضي، بأنه بات يعمل بكامل كفاءته منذ عام 2017، فيما وصل عدد مستخدِميه عام 2022 إلى 399 مصرفاً.

العقوبات تَجمع
على رغم المخاطر التي يكتنفها الاعتماد الروسي المتزايد على اليوان، فإن روسيا والدول الصديقة لها تجد مصلحة متعاظمة في الاتّكال على العملات المحلّية في تبادلاتها البَينية، سواءً بسبب خضوعها بالفعل للحصار، كما هو حال موسكو التي جمّد الغرب، منذ بداية الحرب في أوكرانيا، حوالى 300 مليار دولار من احتياطياتها الأجنبية، أو بسبب خشيتها من الوصول إلى مصير مماثل، تشهد على إمكانية تَكرّره في تجارب كثيرة، من بينها تجربة فنزويلا التي صادرت الولايات المتحدة وبريطانيا إمداداتها من الذهب.
وفي هذا الإطار، ترى الكاتبة زونغيوان زو ليو، في مقالٍ نُشر في «مجلس العلاقات الخارجية» أوائل العام الماضي، أن «لدى روسيا شركاء أكثر في الحدّ من الدولرة في آسيا، مِن مِثل الهند»، التي أعربت في ما مضى عن اهتمامها بخلق بديل لـ«SWIFT» من شأنه أن يسمح لها بالتجارة مع الدول الخاضعة للعقوبات الأميركية. ومع أن الدولار يبقى حتّى الآن العملة العالمية المهيمنة، فإن «التشاؤم بشأن مستقبله سائد»، وفق ما تنبّه إليه الكاتبة رنا فروهر في صحيفة «فايننشال تايمز» البريطانية، فيما تلفت نائبة المدير العام لـ«صندوق النقد الدولي»، غيتا غوبيناث، إلى أن العقوبات تؤدّي إلى «نظام عملات مجزّأ متعدّد الأقطاب»، وهو ما يفرض على الغرب «إعادة التفكير في كيفية فرْض العقوبات، بما قد يمكّنه من حماية مكانة الدولار».