لا ينكر أحد أن قرار رئيسة «الحزب الجيّد»، مرال آقشينير، الانسحاب من «طاولة الستّة»، ورفْضها تأييد ترشيح رئيس «حزب الشعب الجمهوري»، كمال كيليتشدار أوغلو، للانتخابات الرئاسية، فاجأ كلّ الوسط السياسي التركي، خلا الرئيس رجب طيب إردوغان الذي كان تعليقه الوحيد: «لقد قلت إنّهم سيجتمعون ويتحدّثون، ومن ثمّ سيتفرّقون». وعلى رغم أن آقشينير وقّعت، مساء الخميس الماضي، على بيان الاجتماع الثاني عشر لـ«لقاء الستّة» الذي توصّل إلى ما قيل إنه «فهم مشترك» حول الانتخابات، سيعلن عنه اليوم الإثنين، لكنها أعلنت، بعد ساعات قليلة، انسحابها من التحالف المعارِض. فما الذي تغيّر خلال هذه المدّة الوجيزة لكي ينقلب موقف «الحزب الجيّد» رأساً على عقب، وبطريقة من شأنها أن تعيد خلط الأوراق بشكل دراماتيكي؟
تقول زعيمة «الجيّد» إنها لا تريد أن تكون مجبرة على ترشيح كيليتشدار أوغلو (أ ف ب)

قبل حوالى العام، بدأ لقاء الأحزاب الستّة، وهي إلى «الشعب الجمهوري» و«الجيّد»، «المستقبل» برئاسة أحمد داود أوغلو، و«الديموقراطية والتقدّم» برئاسة علي باباجان، و«الديموقراطي» برئاسة غولتكين أويصال، و«السعادة» برئاسة تيميل قره موللا أوغلو. وإلى الاجتماع الأخير، عقدت الأحزاب الستّة 12 اجتماعاً، تواصل كلّ منها على مدى ساعات طويلة، ونجحت، قبل أكثر من شهر، في إعلان وثيقة تقع في 240 صفحة وتتضمّن خطّة عمل اللقاء في جميع المجالات وفي مقدّمها إلغاء النظام الرئاسي وإحلال «نظام برلماني قوي» محلّه يقلّص من صلاحيات رئيس الجمهورية ويعيد إلى الحياة منصب رئيس الوزراء. وفي حينه، كانت آقشينير تقول إنها لا تريد الترشّح للرئاسة، بل أن تكون رئيسة الوزراء في النظام الجديد، في حال فوز المعارضة في الانتخابات. وعلى هذه الخلفية، انصبّ عمل المعارضة على هويّة المرشّح المشترك لـ«طاولة الستّة»، والذي كان محصوراً بين كيليتشدار أوغلو، وكلّ من رئيسَي بلديتَي إسطنبول أكرم إمام أوغلو، وأنقرة منصور ياواش. وبعد الفوز الكبير بفارق 800 ألف صوت الذي حقّقه إمام أوغلو على مرشّح «حزب العدالة والتنمية»، بن علي يلديريم، في رئاسة بلدية إسطنبول، في حزيران 2019، بدا للمعارضة أن كوّة جديدة قد انفتحت أمام بدء التحرّر من سلطة إردوغان، فكان «لقاء الستّة» بمبادرة من زعيم «حزب الشعب الجمهوري» نفسه.
وعلى رغم تباين الاتجاهات الفكرية والسياسية للّقاء، بين علمانيين («الشعب الجمهوري» و«الديموقراطي»)، وقوميين («الجيّد»)، وإسلاميين («المستقبل» و«السعادة» و«الديموقراطية والتقدّم»)، غير أن هذه الأحزاب اجتمعت على هدف التخلّص من إردوغان. وكانت الحسابات العددية للتحالف متفائلة إلى حدّ معقول؛ إذ يشكّل مجموع ما ستحصل عليه الأحزاب المنضوية فيه، مل بين 42% إلى 45%، تُوزّع على الشكل الآتي: 25% لـ«الشعب الجمهوري»، 15% لـ«الجيّد»، و5% إلى 7% للأحزاب الأربعة الأخرى، أي أن اللقاء كان بحاجة إلى نحو 5% من الأصوات أو أكثر بقليل ليفوز مرشّحه. لهذا، كان الاهتمام يتركّز على محاولة اكتساب الصوت الكردي لـ«حزب الشعوب الديموقراطي»، والذي يُقدّر بـ10%. في المقابل، يمثّل «تحالف الجمهور» من حزبَي «العدالة والتنمية» و«الحركة القومية» 40% إلى 42% من الأصوات (30% - 35% لـ«العدالة والتنمية»، و7% لـ«الحركة القومية»). وفي هذا المناخ، كانت لدى مرشّح المعارضة فرصة حقيقية للفوز بالرئاسة وإطاحة حكم حزب إردوغان، سواء من الدورة الأولى أو الثانية. لذا، حين انفجر «زلزال آقشينير»، تمحور السؤال المباشر حول السبب والمستفيد.
وفق روايتها، تقول زعيمة «الجيّد»، إنها لا تريد أن تكون مجبرة على ترشيح كيليتشدار أوغلو، وإنها اقترحت إمام أوغلو أو ياواش نتيجة استطلاعات الرأي. لكنّ هذا التبرير، برأي معظم جبهة المعارضة، غير واقعي. فأكرم إمام أوغلو كان فعلاً المرشّح الأوفر حظّاً للرئاسة، لكنّ إردوغان نجح في «شطبه» من السباق إلى الرئاسة من خلال اتهامه قضائيّاً بتحقير قضاة «اللجنة العليا للانتخابات» عام 2019، ويمكن أن ينتهي الاتهام إلى حظره من العمل السياسي، ما يعني بالتالي أنه لا يمكن المغامرة بترشيحه. أمّا ترشيح منصور ياواش فيعني أن المعارضة ستخسر أيّ دعم محتمل وضروري من القاعدة الكردية، باعتبار أن ميوله قومية، إذ كان عضواً سابقاً في «حزب الحركة القومية» الذي كانت آقشينير عضواً فيه قبل أن تنشقّ عنه وتشكّل حزبها الخاص وتدخل البرلمان بمساعدة من «الشعب الجمهوري» نفسه. وفي ظلّ إعلان إمام أوغلو وياواش التزامهما بقرار حزبهما، يكون موقف آقشينير المفاجئ غير مبرّر وغير واضح. وهنا، ربّما يكون أمران عملا على حسْم «الرئيسة» خيارها الانقلاب على «الطاولة»: الأوّل، أنها لا تريد مرشّحاً قد يحظى بدعم لاحق في الدورة الثانية من القاعدة الكردية وهي التي كانت تكرّر القول إنه لا مكان لـ«حزب الشعوب الديموقراطي» على «طاولة الستّة»؛ والثاني أنها لا تريد لمرشّح علوي الانتماء، مثل كيليتشدار أوغلو، أن يصبح رئيساً للجمهورية، علماً أن أحد مسؤولي «الجيّد»، وهو النائب عن أنقرة، إبراهيم خليل أورال، قال، في 8 آب 2022: «(إنّني) ضدّ ترشيح كمال كيليتشدار أوغلو لرئاسة الجمهورية. كون كيليتشدار علويّاً لن يُكسبه الانتخابات. وكون 70% من الأتراك يُصنَّفون محافظين، يوجب اختيار اسم يمكنه مخاطبتهم وينسجم مع هذا التوصيف». واقتضى الأمر، في حينه، إجراء اتصالات للملمة ردود الفعل. وكانت واضحة أيضاً الحفاوة البالغة التي استقبلت فيها آقشينير، إمام أوغلو في احتفال دعْم له أمام بلدية إسطنبول، عندما صدر في حقّه قرار مبدئي بالحظر السياسي في تشرين الثاني الماضي. وكان الاحتفاء المبالغ فيه، رسالة اعتراض على احتمال ترشيح كيليتشدار أوغلو، أكثر منها دعْم لإمام أوغلو. لكن آقشينير، وعلى طريقة «دسائس البلاط العثماني» التي لعبت نساء السلاطين فيها دوراً بارزاً، انتظرت حتى اللحظة الأخيرة لتضرب ضربتها، حتى لا يبقى متّسع من الوقت أمام المعارضة لاستجماع قواها من جديد.
أما إذا كان هناك عامل ثالث مرتبط بـ«تواطؤ» ما مع القصر الجمهوري، فهذا سيتبيّن مع مرور الوقت. وبحسب عبد القادر سيلفي، المقرّب من إردوغان، فإنه من غير الممكن دعوة آقشينير إلى تحالف إردوغان - دولت باهتشلي، نظراً إلى أنها كانت انشقّت عن حزب هذا الأخير قبل خمس سنوات. وعلى هذا، ليس أمامها سوى الترشّح هي أو مَن ينوب عنها للرئاسة عن «الحزب الجيّد». وفي المحصّلة المؤكدة، فإن انسحاب آقشينير يُعتبر «هدية من السماء» لإردوغان، كونه يخدم تعزيز حظوظه في الرئاسة لخمس سنوات إضافيّة، في لحظة كان زلزال السادس من شباط يقلّص من فرص نجاحه. ويقول سيلفي إن الانطباع داخل «العدالة والتنمية» هو أن إردوغان سيفوز من الجولة الأولى. ولا شكّ في أن قرار آقشينير سينعكس سلباً أيضاً على نتائج الانتخابات النيابية/ كما على الانتخابات البلدية التي ستجري بعد سنة، إذ إن فوز إمام أوغلو وياواش ببلديتَي إسطنبول وأنقرة لما كان ليحصل لولا التحالف بين حزبَي «الشعب الجمهوري» و«الجيّد»، وتأييد «الشعوب الديموقراطي».
لكنّ انسحاب آقشينير من «الطاولة» لن يشكّل بالنسبة إليها أيّ ميزة سياسية إضافية، بل إن خطوتها تُعدّ مقامرة بمستقبلها وبمستقبل حزبها الجديد أساساً على الساحة السياسية، وهي التي قالت بعد انسحابها: «إمّا سنصنع التاريخ، وإمّا سنصبح من التاريخ». ولم تكتفِ الزعيمة التي صوّرها الإعلام التركي على أنها «غدّارة»، بشقّ صفوف المعارضة، بل حاولت بوضوح أن تثير الانقسام داخل «حزب الشعب الجمهوري» من خلال حضّ إمام أوغلو وياواش على الترشّح للانتخابات. لكنّ الردّ جاء سريعاً منهما أنهما غير مرشّحين، وهما ملتزمَان قرار الحزب بترشيح رئيسه. ومن جهتهم، أكّد رؤساء الأحزاب الخمسة الآخرون، في تغريدات، أن كلام آقشينير لا يعكس حقيقة ما كان يجري منذ الاجتماع الأول للّقاء في 12 شباط 2022، وأن النقاشات كانت تجري في جوّ ديموقراطي وحرّ، ومن دون أيّ ضغوط. وبعد اجتماعهم الأوّل السبت، من دون آقشينير، شدّد رؤساء الأحزب الخمسة على «مواصلة العمل معاً بحكمة وتشاور وتوافق من أجل نصر لا يخسر فيه أحد»، على أن يجتمعوا مجدّداً اليوم الإثنين لإعلان برنامجهم الانتخابي واسم مرشّحهم للرئاسة.
ولا يستبعد علي بيرم أوغلو، في صحيفة «قرار» المعارضة، قيام تحالف من الأحزاب الخمسة وأحزاب اليسار و«حزب الشعوب الديموقراطي» الكردي، مبيّناً أن لمثل هذا التحالف العريض إذا تشكَّل، معطوفاً على أصوات معترضة من داخل «الحزب الجيّد» الذي بدأت فيه بعض الاستقالات، أن يهزم إردوغان. أما عاكف باقي، فيقول إن «لقاء الستّة» لم ينهَرْ، ولكنه أصبح خمسة، وأن فوز مرشّح المعارضة من الدورة الأولى قد سقط، ولكن النزال سيكون في الجولة الثانية. ومن جهته، يرى مراد يتكين أن انسحاب آقشينير يجب ألّا يغلق الباب أمام محاولة رأب البين من جديد بين أطراف المعارضة، وألّا تصل الأمور إلى عتبة شطْب احتمالات التصالح. وجمع سركان آلان، في صحيفة «دوار غازيتيه»، عدداً كبيراً من تعليقات مواقع التواصل الاجتماعي الغاضبة من قرار آقشينير، ومنها: «آقشينير حصان طروادة طاولة الستّة»؛ «هذه الأمّة لن تنسى هذه الخيانة»؛ «لقد أطلقتِ الرصاص على قدميك، فلماذا فعلتِ ذلك؟»؛ «لماذا كنتِ تتلاعبين بنا منذ سنة ونصف سنة؟»؛ و«لماذا قتلتِ الأمل لدى مواطنينا؟».
إذا كان هناك عامل مرتبط بـ«تواطؤ» ما بين آقشينير والقصر الجمهوري، فهذا سيتبيّن مع مرور الوقت


في المقابل، يقول محمد برلاس، في صحيفة «صباح» الموالية، إن عدم تأجيل الانتخابات سرّع في انهيار «طاولة الستّة»، وإن «هذا كان ضربة معلّم من إردوغان». لكن برهان الدين دوران يرى أن قرار قشينير سيعرّض حزبها إلى خسارة كبيرة، أو أنه سيعيد تموضعه من جديد. وفي كلتا الحالتَين، فإنه يصبّ في مصلحة إردوغان. وفي «يني شفق» الموالية، يلفت أرسين تشيليك إلى أن انسحاب آقشينير «فتح الطريق أمام «حزب الشعوب الديموقراطي الكردي» ليأخذ مكانها في المشهد الانتخابي، وليكون الشريك السرّي السادس للطاولة». وبحسب الكاتب المخضرم فهمي قورو، فإن زعيمة «الجيّد» «رفضت أن يكون عبدالله غول مرشّحاً مشتركاً للمعارضة مقابل إردوغان في عام 2018، ففاز الأخير. واليوم تتسبّب آقشينير نفسها بانقسام المعارضة لتنفتح الطريق سهلة أمام فوز إردوغان. دائماً كان دورها تخريبياً ولم يكن جامعاً».