موسكو | مع انطلاق الحرب الروسيّة على أوكرانيا، عكفت الولايات المتحدة على محاولة حشْد حلفائها وأصدقائها عبر العالم، من أجل الانخراط في حملة العقوبات غير المسبوقة التي قادتْها ضدّ موسكو. لكن تلك المحاولة لم تؤتِ الثمار التي اشتهاها الأميركيون، الذين تدهورت علاقتهم مع الروس إلى الحضيض، شأنها شأن صِلات الأخيرين بالاتحاد الأوروبي. أمّا في ما عدا ذلك، فقد بدت روسيا قادرة كسْر طوق العزلة من حولها، وإدامة تعاونها بل وتطويره مع دول عديدة في شرق العالم وجنوبه، كما في حالات الصين والهند وتركيا وإيران، بل وأيضاً السعودية وعدد من دول الخليج. وفي هذا الإطار، يرى المستشرق كيريل سيمينوف، الخبير في «المجلس الروسي للشؤون الدولية»، أن «ميزة السياسة الخارجية لروسيا تتمثّل في أن موسكو تمكّنت من الحفاظ على المصالح المشتركة ومستوى عالٍ من العلاقات مع دول منطقة الشرق الأوسط». وعلى مدار العام الماضي، أظهرَ أطراف عديدون في المنطقة ممانعتهم التساوق مع الحصار الغربي على روسيا، وعلى رأس هؤلاء تركيا، التي على رغم كونها عضواً في «حلف شمال الأطلسي»، أظْهرت درجة عالية من المرونة، ورفضت فرْض عقوبات على موسكو، بل وانتقدت محاولات الغرب «إلغاء روسيا»، وهو ما قابلتْه الأخيرة بإفساح مجال لأنقرة لتعزيز رصيدها الديبلوماسي، أوّلاً عبر استضافتها مفاوضات روسية - أوكرانية في إسطنبول في نهاية آذار الماضي (وإنْ لم تُفضِ إلى أيّ نتيجة تُذكر)، ومن ثمّ تحوُّلها إلى مركز مهمّ لتصدير حبوب البلدَين المتنازعَين، فضلاً عن استعدادها للعب دور مهمّ في ملفّ تصدير الطاقة، مع إعلان الرئيس الروسي، فلاديمير بوتين، العزم على إنشاء مركز في تركيا لتصدير الغاز إلى أوروبا. يُضاف إلى ما تَقدّم، أن تركيا تحوّلت إلى مركز لوجستي للتحايل على العقوبات ضدّ روسيا، حيث تَجري فوق أراضيها عمليات تصدير واستيراد البضائع لصالح موسكو، على رغم التهديدات الأميركية بفرض عقوبات عليها. ويفسّر سيمينوف هذا السلوك بأن «الرئيس رجب طيب إردوغان يذهب إلى أقصى حدّ من التعاون مع موسكو، متطلّعاً من وراء ذلك إلى الحصول على أرباح لإعادة انتخابه. أوّلاً، وقبل كلّ شيء، يتعلّق ذلك بتخفيضات على الغاز، ستساعد في الحدّ من ارتفاع الأسعار داخل البلاد».
في الاتّجاه نفسه، شهدت العلاقات بين روسيا وإيران تطوّراً كبيراً، متجاوِزةً نمطاً ساد سابقاً عنوانه رفْض أطراف في القيادة الروسية تعميق التقارب مع طهران، وإعلاؤها أولوية التفاهم مع الغرب والتعاون مع إسرائيل. ومثّلت خبرة طهران الطويلة في مواجهة آثار العقوبات الغربية أمثولة حيّة لموسكو للاستفادة منها، فيما استطاعت الأخيرة، عبر تعزيز الصِلات الاقتصادية مع الأولى، الحصول على بعض الصناعات الكيماوية. وإذ تَمثّل الإنجاز الرئيس المشترك في تطوير ممرّ النقل بين الشمال والجنوب، فلا يزال أمام البلدَين العمل على تجاوز بعض العقبات، وتحديداً في ما يتعلّق بقضايا السياسة النقدية التي تُعتبر التحدّي الأصعب في 2023، وفق المستشرق سعيد غافوروف. ويَلفت غافوروف، في تصريح إلى صحيفة «فزغلياد»، إلى أنه «من الناحية الفنّية، لا يزال هناك الكثير الذي يتعيّن تحديده، ولكن الشيء الرئيس هو القرارات السياسية التي يتمّ اتّخاذها». على أن التعاون الأبرز على خطّ موسكو - طهران، والذي أثار حفيظة الولايات المتحدة والاتحاد الأوروبي، تَمثّل في تعزيز العلاقات العسكرية، حيث رغبت روسيا في الاستفادة من تجربة إيران في تطوير سلاح المسيّرات، في حين تتطلّع الأخيرة إلى الحصول على أحدث التقنيات العسكرية من الأولى.
على مستوى دول الخليج، شهدت صِلات روسيا بالسعودية تحسُّناً كبيراً، وهو ما شهد عليه قرار «أوبك+» خفْض إنتاج النفط خلافاً لرغبة الرئيس الأميركي، جو بايدن، الذي فشلت كلّ محاولاته لإقناع الرياض وبقيّة مُصدّري النفط المحلّيين بزيادة الإنتاج وفرْض حظْر على الموارد الروسية. وفي هذا الإطار، يرى الخبراء الروس أن «اتّفاق موسكو مع «أوبك» يُعدّ نجاحاً رئيساً للأولى في المنطقة في 2022». ويرى أستاذ العلوم السياسية في الجامعة المالية التابعة للحكومة الروسية، غيفورغ ميرزيان، أن «اتفاق «أوبك+» حصل بفضل بناء العلاقات المحترَمة مع السعودية ودول الشرق الأوسط»، مشيراً، في تصريح إلى صحيفة «فزغلياد»، إلى أن «وليّ العهد السعودي، محمد بن سلمان، يشعر بالرضى لأن الرئيس فلاديمير بوتين يعترف على وجه التحديد بمساهمته في الشؤون الدولية، بما في ذلك القبول بأدوار الوساطة في الصراع الأوكراني»، في إشارة إلى دور السعودية في إفراج روسيا عن 10 أسرى أوكران في أيلول الماضي.
أمّا بالنسبة إلى الإمارات، فقد شكّل لقاء رئيسها، محمد بن زايد، ببوتين، في سان بطرسبورغ، التجلّي الأوضح لِما بلغتْه علاقات البلدَين، ونأي أبو ظبي بنفسها عن جهود عزْل موسكو. وإذ ساهمت الدولة الخليجية أيضاً في تسهيل الإفراج عن أسرى روس لدى كييف، فإن الدور الأبرز الذي لعبتْه يتمثّل في تحوّلها إلى سوق مهمّ للذهب الروسي، بالإضافة إلى مساهمتها في إنجاز عمليات تجارية لصالح روسيا. وفي هذا الإطار، يرى ميرزيان، أن «تحسُّن علاقات روسيا مع دول الشرق الأوسط، وتحديداً دول الخليج العربي، سيكون عاملاً مهمّاً وداعماً لها في مواجهتها القائمة مع الغرب»، مشدّداً خصوصاً على ضرورة تعزيز «الشراكة القائمة بالفعل مع الرياض».


موسكو - تل أبيب: «الودّ» الضائع


شهد العام الماضي فتوراً بل وتراجُعاً في العلاقة بين روسيا وإسرائيل، وصل إلى حدّ قيام الأولى بإغلاق «الوكالة اليهودية للهجرة» على أراضيها، واتّهام الأخيرة بدعم مَن تسمّيهم «النازيين الجدد» في أوكرانيا. وساهم تلويح رئيس الوزراء الإسرائيلي السابق، يائير لابيد، أكثر من مرّة، بإمكانية تزويد أوكرانيا بالأسلحة، في تأجيج الوضع، ودفَع نائب رئيس مجلس الأمن القومي الروسي، ديمتري ميدفيديف، إلى التحذير من أن هذه «الخطوة المتهوّرة للغاية ستدمّر العلاقات الثنائية بين موسكو وتل أبيب». ومع عودة بنيامين نتنياهو إلى رئاسة الحكومة الإسرائيلية، ساد اعتقاد بأن تلك العلاقات قد تشهد تحسّناً، على اعتبار أن نتنياهو يُعدّ صديقاً شخصياً للرئيس الروسي، فلاديمير بوتين. لكنّ هذا «التفاؤل» سرعان ما تَبدّد مع إعلان نتنياهو أن حكومته تدْرس إمكانية تزويد أوكرانيا بالأسلحة، فضلاً عن زيارة وزير الخارجية الإسرائيلي، إيلي كوهين، لكييف، والتي تُعدّ الأولى لمسؤول إسرائيلي رفيع المستوى منذ بدء الحرب. إزاء ذلك، يرى الباحث في «معهد دراسات الأمن القومي» في جامعة تل أبيب، سايمون تسيبيس، أن «من المهمّ لإسرائيل الحفاظ على علاقات دافئة مع روسيا»، لافتاً، في تصريح إلى صحيفة «فزغلياد»، إلى أن «نتنياهو قادر على تهدئة حماس مؤيّدي توريد الأسلحة لأوكرانيا، نتيجة التناقضات الكثيرة بينه وبين الرئيس الأوكراني». لكنّه حذر، في المقابل، من أنه «إذا وسّعت روسيا تعاونها في مجال التسلّح مع إيران، فسوف يغري ذلك إسرائيل بتغيير موقفها والعمل على مدّ أوكرانيا بالأسلحة».