مع دخول الحرب الروسية - الأوكرانية عامها الثاني، أعلن البيت الأبيض، أوّل من أمس، عن حزمة مساعدات عسكرية جديدة لكييف بقيمة مليارَي دولار، ستنضمّ إلى حُزم عديدة أخرى جرى تزويد أوكرانيا بها منذ شباط 2022، كان آخرها ما جرى الإعلان عنه في كانون الثاني الماضي من رزمة بلغت قيمتها 200 مليون دولار، فضلاً عمّا تضمّنته الميزانية الدفاعية الأميركية لعام 2023، والتي حطّمت رقماً قياسياً ناهز 857 مليار دولار (بفارق 80 مليار دولار عن ميزانية عام 2022)، من دعم مماثل بلغ 300 مليون دولار. تُنبئ جميع هذه الأرقام المتضخّمة بمرحلة رخاء جديدة يعيشها صنّاع الأسلحة على مستوى العالم، وخصوصاً في الولايات المتحدة، والذين تمثّل الصراعات بالنسبة إليهم «فرصة تسويقية رائعة»، وفق ما يرى الكاتب في «رسبونسبل ستايت كرافت»، كونور إيكولز، مشيراً في مقال له نُشر أخيراً، إلى أنه في غضون بضعة أشهر فقط، «تحوّلت صواريخ هيمارس وجافلين من قِطع غامضة من المعدّات العسكرية إلى رموز معترَف بها على نطاق واسع للمقاومة الأوكرانية». والواقع أن هذه «الإفادة» الهائلة ليست جديدة؛ إذ لطالما شكّلت الحروب مدخلاً عظيماً لـ«المجمّع العسكري الصناعي» لتعظيم أرباحه، والتي تُقدَّر بعشرات مليارات الدولارات سنوياً، وهو ما يُثبّت له مصلحة أكيدة في إبقاء هذه الحروب، بل والحضّ عليها حتى تلبّي طموحاته التي يكون قد جدْولها سلفاً لسنوات. وفي هذا الإطار، يؤكّد المحلّل السابق في البنتاغون، فرانكلين سبيني، أنه «دائماً هناك حاجة إلى زيادة التوتّرات لتمويل موجة الإنفاق الدفاعي المستقبلي، الذي تمّت برمجته بالفعل في البنتاغون». يفسّر ذلك ديمومةَ الحملات التي يقودها ما يُعرف بـ«المثلّث الحديدي»، والذي يتألّف من الشركات الدفاعية وشبكة مُوالية لها داخل البنتاغون وأخرى مُنتفعة منها داخل الكونغرس، من أجل إبقاء البلاد في «حالة حرب دائمة» سواءً بشكلٍ مباشر أو بالوكالة، والدفع نحو «وضْع سياسات تفضي إلى بيع أكبر قدْر ممكن من الأسلحة إلى أكبر عدد ممكن من العملاء الأجانب»، وفق المحلّل في الشؤون الدفاعية، وليام دي هارتونغ، وهو ما يمكن التمثيل عليه بالضغط الهائل الذي مارستْه شركة «Raytheon»، لإبطال الجهود التشريعية الهادفة إلى منْع بيع الذخائر المُوجَّهة بدقة، إلى السعودية.
وتمتلك شركات الدفاع الأميركية أدوات ضغط كثيرة وذات فعالية، متمثّلة في «اللوبيات» التي يفيد مركز دراسات «Open Secrets» بأن صنّاع الأسلحة أنفقوا عليها، خلال العقدَين الماضيَين، حوالى 2.5 مليار دولار، ذهب 79 مليوناً منها كتبرّعات للأحزاب والمرشحين. ويشير المركز إلى أنه «خلال العامَين الأوّلَين من عهد إدارة جو بايدن، أنفق هؤلاء على الدعاية الخاصة بهم 19 مليون دولار»، مرجّحاً أن «تزداد وتيرة الصرف بشكل حادّ في الفترة التي تسبق انتخابات 2024». يُضاف إلى ما تَقدّم أن «المجمّع العسكري الصناعي» استطاع توظيف ما يزيد عن 766 من أعضاء جماعات الضغط في المؤسّسات الحكومية في عام 2021، فيما الأكيد أن «ما لا يقلّ عن 20 عضواً من الكونغرس أو أزواجهم يمتلكون أسهماً في أكبر شركات الدفاع الأميركية (لوكهيد مارتن، ورايثيون)»، وفق موقع «بزنس إنسايدر». وعليه، لا يعود مستغرَباً قول هارتونغ، في ورقته البحثية المنشورة أخيراً، إن الغالبية العظمى من أعضاء «لوبيّات السلاح» قد مرّت عبر ما سمّاه «الباب الدوّار»، المتمثّل في مناصب عليا في البنتاغون والكونغرس ووزارة الخارجية والبيت الأبيض.
يعود استخدام الولايات المتحدة للمقاولين العسكريين إلى الحرب «الثورية» الأميركية


المقاولون رابحٌ دائم
يعود استخدام الولايات المتحدة للمقاولين العسكريين إلى الحرب «الثورية» الأميركية (1775 – 1783)، عندما اعتمد الجيش القارّي (الذي تَشكّل على يد المستوطِنين في الولايات المتحدة) على الشركات الخاصة (القراصنة) لتوفير الإمدادات، وحتى شنّ غارات على السفن. إلّا أن المحطّة الرئيسة التي وضعت تلك الشركات على سكّة الانتعاش، تمثّلت في حرب الخليج الثانية، ثمّ جاءت محطّة «11 أيلول»، وما أعقبها من إعلان «حرب عالمية على الإرهاب» برعاية البنتاغون، لتمثّل «النافذة الذهبية» بالنسبة إليها، والتي ظلّت مفتوحة مذّاك «بغضّ النظر عن انتماء ساكن البيت الأبيض». وتُعتبر «لوكهيد مارتن» و«رايثيون» و«جنرال دايناميكس» و«بوينغ» و«نورثروب غرومان»، اليوم، أكبر خمس شركات أميركية متعاقدة مع البنتاغون، وهي تلقّت عقوداً تزيد قيمتها عن 2.1 تريليون دولار بعد «11 أيلول»، وفق ما تفيد به ورقة بحثية عن تكاليف الحرب، صادرة عن جامعة «براون»، فيما أَنفقت في المقابل 1.1 مليار دولار على جماعات الضغط، ما يعني أنه «مقابل كلّ دولار أُنفق على اللوبي، تمّ الحصول على حوالى دولارَين من أموال دافعي الضرائب»، بحسب المحلّل في السياسة الدفاعية في «مركز معلومات الدفاع» (POGO)، دان غرايزر. أمّا في أعقاب اندلاع الحرب الروسية - الأوكرانية، فقد بلغت الأرباح التشغيلية لـ«لوكهيد مارتن»، مثلاً، 1.778 مليار دولار خلال الربع الثالث من عام 2022، مقارنة بـ641 مليون دولار خلال الفترة نفسها من 2021.

البنتاغون أوّلاً
«مع احتدام الصراع في أوراسيا، يبدو واضحاً أن مركز ثقل مبيعات الأسلحة الأميركية قد بدأ في التحوّل من الشرق الأوسط إلى أوروبا وشرق آسيا»، وفق ما يورد هارتونغ، منبّهاً، في خضمّ هذا التحوّل، إلى أن التاريخ الحديث «أثبت فشل تلك المبيعات في تثبيت النفوذ، ودورها في جرّ الولايات المتحدة إلى مستنقعاتٍ كلّفتها الكثير، مِن مِثل حربَي العراق وأفغانستان». وهي حروبٌ يرى غرايزر أن «واشنطن لم تَفُز فيها، إلّا أن مقاولي الدفاع الأميركيين فعلوا ذلك بالتأكيد»، وهو ما يدلّ عليه الرقم الهائل لِما دَفعه الأميركيون من جيوبهم عقب «11 سبتمبر» (قرابة 14 تريليون دولار)، والذين ذهب نصفه إلى خزائن مقاولي الدفاع. لكن هل أدّى ذلك الإنفاق إلى جعْل المواطن الأميركي أكثر أمْناً؟ يجيب هارتونغ بالنفي، معتبراً أن «الكثير من التمويل الموجَّه إلى البنتاغون يضيع على استراتيجية مضلِّلة وبرامج أسلحة غير ضرورية». ويَلفت إلى أن إدارة بايدن لا تزال «تضع البنتاغون أوّلاً، على الرغم من التعهّدات بوضع الديبلوماسية أوّلاً في السياسة الخارجية لأميركا»، وهو ما يدلّ عليه مثلاً استئناف صادرات الأسلحة للسعودية بعد ثمانية أشهر فقط من تعليقها، على رغم تعهّد بايدن بجعل وقْف الحرب في اليمن أولوية له.