موسكو | كثيرة هي الأسئلة ذات الطابع العسكري التي تُطرح بعد عام على بدء الحرب الروسية على أوكرانيا، سواء حول مدى استعداد موسكو لها، أو نجاعة تقديراتها الاستخبارية لقدرات خصمها الأوكراني. الأكيد أن روسيا لم تكن على دراية تامّة بحجم تلك القدرات، ولا بالاستعدادات والتحصينات التي جهّزها الأوكران في منطقة دونباس منذ عام 2014، حيث تُقدّر موسكو اليوم، وفقاً لتأكيدات الرئيس فلاديمير بوتين، أن «اتّفاقيات مينسك» اتُّخذت كستار لتقوية الجيش الأوكراني، وهو ما تَكشّفت جوانب منه في تصريحات المستشارة الألمانية السابقة، أنجيلا ميركل، والرئيس الفرنسي السابق، فرنسوا هولاند. ومع انطلاق الحرب فجر 24 شباط 2022، ووصول القوّات الروسية إلى حدود كييف في محاولة لتطويقها والسيطرة عليها، ظنّ الكثيرون أن موسكو ستستطيع السيطرة على المناطق الضرورية لإقامة «شريط آمن» في دونباس في وقت قصير، ومن ثمّ إنهاء العملية العسكرية عبر فرْض اتّفاق على الأوكران يشمل تحقيق الضمانات الأمنية التي تريدها. لكن حقائق الميدان في الأسابيع الأولى أظهرتْ أن الجيش الأوكراني كان قد استعدّ جيّداً للحرب، مدفوعاً بدعم عسكري ولوجستي كبير من الولايات المتحدة وشركائها في حلف «الناتو». مع مضيّ نحو شهر، جاء قرار روسيا سحْب قوّاتها من محيط كييف، والذي جرى تبريره رسمياً بالسعي لدفع العملية التفاوضية، فيما فُسّر إعلامياً بأنه إشارة إلى فشل خطط موسكو الأوّلية. فشلٌ انسحب أيضاً على خاركوف، قبل أن يتمكّن الجيش الروسي من تحقيق إنجاز مهمّ بالسيطرة على كامل مقاطعة خيرسون جنوب أوكرانيا في 15 آذار 2022. وبمرور الوقت، وثبوت الإخفاق الروسي في الحسم السريع، وتصاعُد الدعم العسكري «الأطلسي» لأوكرانيا، وجدت موسكو نفسها مضطرّة لتعديل استراتيجيتها؛ إذ أعلنت، في 19 نيسان الفائت، إطلاق المرحلة الثانية من العملية العسكرية، والهادفة إلى «تحرير كامل أراضي إقليم دونباس». يومها، أوضح نائب قائد قوّات المنطقة العسكرية الوسطى في الجيش الروسي، روستام مينيكايف، أن «أحد أهداف الجيش الروسي يكمن في إحكام السيطرة التامّة على منطقة دونباس وجنوب أوكرانيا، ما سيتيح إنشاء ممرّ برّي إلى القرم، والتأثير على المنشآت الاقتصادية الأوكرانية ذات الأهمّية الحيوية». وأشار مينيكايف إلى أن السيطرة على جنوب أوكرانيا ستمنح روسيا ممرّاً إضافياً إلى «جمهورية ترانسنيستريا»، المعلَنة من طرف واحد والمعترَف بها من قِبَل روسيا، في مولدوفا.
تُكافح القوّات الروسية على الأرض من أجل الوصول إلى وضع يمكن على أساسه إعلان انتصار


بعد ذلك بنحو شهر، أعلنت موسكو نجاح قوّاتها في السيطرة على مدينة ماريوبول الاستراتيجية المطلّة على بحر آزوف، وهو ما عُدّ الإنجاز الأهمّ لها منذ بدء الحرب، والذي جعلت من خلاله «آزوف» بحراً روسياً بالكامل. وفي 3 تموز الفائت، أعلن وزير الدفاع الروسي، سيرغي شويغو، السيطرة على كامل أراضي «جمهورية لوغانسك الشعبية» المعلَنة من جانب واحد أيضاً، والمعترَف بها من قِبَل روسيا، وهو ما اعتُبر بدوره مكسباً بالغ الأهمية، كونه خسّر الجيش الأوكراني خطّ دفاع مهمّاً هناك. على أن هذه المكاسب لم تؤدِّ إلى كسْر كييف، التي عادت ونجحت، بحلول شهر أيلول، في تعديل كفّة الميدان لمصلحتها، مجبِرةً الجيش الروسي على الانسحاب من محيط مدينة خاركوف، وكذلك من مدينة خيرسون بعد أيام من إعلانها «منطقة روسية» عقب استفتاء أُجري لضمّها وثلاث مناطق أخرى إلى روسيا، وانتهى بتأييد الضمّ. رسَم هذا التقهقر صورة قاتمة لوضع الجيش الروسي، وأنبأ بأن الدعم الغربي متعدّد الأوجه لكييف بدأ يؤتي ثماره.
لكن هذا الوضع سرعان ما قابلتْه موسكو بخطوات إجرائية سريعة، بدأها بوتين بإعلان التعبئة العامّة الجزئية في 21 أيلول الماضي، واستدعاء نحو 300 ألف جندي من الاحتياط للخدمة. وأعقبَ ذلك تعيين الجنرال سيرغي سوروفيكين قائداً للقوّات العاملة في أوكرانيا، قبل أن تَفتح روسيا، على خلفية استهداف جسر القرم في 8 تشرين الأوّل الماضي (والذي اتّهمت موسكو كييف بالوقوف خلفه)، استراتيجيتها الجديدة المتمثّلة في إنهاك البنى التحتية الأوكرانية، واستهداف كلّ طُرق الإمداد العسكري الغربي إلى كييف. وفي 11 كانون الثاني، عادت القيادة الروسية وأحدثَت تغييرات في قيادة العمليات العسكرية؛ إذ عيّن وزير الدفاع، سيرغي شويغو، رئيس الأركان العامّة للقوّات المسلّحة، فاليري غيراسيموف، قائداً لمجموعة القوّات المشتركة الروسية في أوكرانيا، كما عيّن نوّاباً له هم: القائد العام للقوّات الجوية، الجنرال سيرغي سوروفكين، والقائد العام للقوّات البرّية، الجنرال أوليغ ساليوكوف، ونائب رئيس الأركان العامّة، الفريق أول أليكسي كيم. وأوضح، يومها، بيان وزارة الدفاع أن «رفْع مستوى قيادة العملية العسكرية الخاصة يرتبط بتوسيع نطاق المهامّ، وضرورة تنظيم تفاعل أوثق بين فروع القوّات المسلحة، وكذلك تحسين نوعية الدعم وفعالية إدارة مجموعة القوات».


توالى، عقب ذلك، تقدُّم القوّات الروسية على أكثر من جبهة في أراضي «جمهورية دونيتسك الشعبية» (المعلَنة من جانب واحد والمعترَف بها من قِبَل موسكو)، لتبدأ رقعة السيطرة الروسية في المنطقة بالتوسّع، ويسجَّل الإنجاز الأبرز هناك بانتزاع مدينة سوليدار، فيما يتواصل السعي اليوم لإسقاط مدينتَي أرتيوموفسك (باخموت بالأوكرانية) وأوغليدار، والذي سيمثّل تغييراً استراتيجياً في المعركة لمصلحة روسيا، وكسراً لأهمّ خطّ دفاع أوكراني. وأمام التقدّم الروسي هذا، أقرّت كييف بأن الوضع في دونيتسك يزداد صعوبة، وهو ما دفع الغرب بقيادة واشنطن إلى بدء عملية تحشيد عسكرية جديدة لمصلحة أوكرانيا، يُفترض أن تشمل تزويدها بدبّابات «أبرامز» الأميركية و«ليوبارد 2» الألمانية. في المقابل، عمدت روسيا إلى فتْح جبهة في زابوروجيا بهدف تشتيت القوّات الأوكرانية ومنْعها من التقاط أنفاسها، فيما حذّر الأمين العام لحلف «الناتو»، ينس ستولتنبرغ، من أن «موسكو تستعدّ لشنّ هجوم كبير»، وهو ما ذهب إليه أيضاً الرئيس الليتواني، جيتاناس نوسيدا، الذي اعتبر أن «المرحلة الحاسمة من الحرب» بدأت بالظهور. وفُسّرت هذه التحذيرات، في بعض الأوساط، على أنها دعاية مضخَّمة بهدف حشد مزيد من الدعم العسكري لأوكرانيا، على رغم إقرار رئيس هيئة الأركان المشتركة الأميركية، الجنرال مارك ميلي، في 20 كانون الثاني، بأنه سيكون «من الصعب جدّاً جدّاً» على القوّات الأوكرانية استعادة الأراضي التي سيطرت عليها روسيا.
وفي هذا الإطار، يرى مدير الأبحاث في «نادي فالداي الدولي للمناقشة»، ورئيس تحرير مجلة «روسيا في السياسة العالمية»، فيودور لوكيانوف، أن «القادة الغربيين في طريق مسدود. إنهم لا يعرفون كيف يغيّرون الوضع، لذلك يواصلون ضخّ الأسلحة إلى أوكرانيا». ويضيف لوكيانوف، في تصريح إلى صحيفة «فزغلياد»، إن القادة الغربيين «ليس لديهم إجابة عن السؤال حول ما يجب أن يكون عليه النجاح العسكري للقوّات المسلّحة الأوكرانية، لأنه من غير المعروف كيف سيكون ردّ فعل روسيا على ذلك». وفي الاتّجاه نفسه، يرى رئيس «مركز الأمن الدولي» في «IMEMO RAS»، أليكسي أرباتوف، أن «الأوروبيين قلقون، وبينما يزيدون إمدادات الأسلحة، لا يزالون يفكّرون في كيفية منْع الصراع من التصعيد».
وبينما يترقّب العالم «الهجوم الروسي الوشيك» بحسب «الناتو»، وتُكافح القوّات الروسية على الأرض من أجل الوصول إلى وضع يمكن على أساسه إعلان انتصار، يستمرّ الحشد العسكري «الأطلسي» بهدف «إلحاق الهزيمة بروسيا وليس سحقها»، وفق ما قاله الرئيس الفرنسي، إيمانويل ماكرون، وردّ عليه بوتين أخيراً بأن «هزيمة روسيا في الميدان مستحيلة».