لا استراتيجية موحّدة في إدارة بايدن حيال روسيا عودة واشنطن إلى الاتفاق النووي مع طهران واردة مستقبلاً
لا فرق بين ترامب وبايدن بالنسبة إلى الفلسطينيين

على رغم إخفاقاتها المتكرّرة في تحقيق أهدافها المعلَنة خلال العقدَين الماضيَين، ما زال الكثير من الخبراء والمحلّلين الغربيين والعرب، يُدرجون سياسة واشنطن الخارجية في إطار استراتيجية عامّة مُحكمة التخطيط، يجري تنفيذها ميدانيّاً بحذافيرها، ويعجَز خصومها عن مقاومتها، بل و«يقعون في شراكها». هذا ما تشي به، مثلاً، السردية الغربية السائدة حيال تدخُّل روسيا في أوكرانيا، والذي يُقدَّم على أنه وقوع في فخّ أميركي نُصب سلفاً لها، لاستنزافها وإضعافها. المؤرّخ والمفكّر الفلسطيني، رشيد الخالدي، أحد أبرز المتخصّصين في شؤون السياسة الخارجية الأميركية، يشير، من جهته، في مقابلة مع «الأخبار»، إلى عدم وجود استراتيجية موحّدة داخل إدارة جو بايدن حيال روسيا، إضافة إلى التناقضات الكبرى بين الأولويّات الخارجية الرسمية لواشنطن، وفي مقدّمتها مواجهة الصين، والسياسات المعتمَدة لبلوغها. وهو يرى أن مفاعيل الحرب في أوكرانيا على المستوى العالمي، خاصّة في ميادين الاقتصاد والطاقة، أَجبرت هذه الإدارة على تعديل سياستها تجاه فنزويلا، وقد تفرض عليها مستقبلاً تغيير تلك التي تتبعها مع إيران. للخالدي، الحائز على «كرسي إدوارد سعيد للدراسات العربية المعاصرة» في جامعة كولومبيا، ومدير «مجلة الدراسات الفلسطينية» في الولايات المتحدة، مجموعة من الكتب المرجعيّة عن القضيّة الفلسطينية والسياسة الأميركية، وآخرها «حرب المئة عام على فلسطين. الاستعمار الاستيطاني والمقاومة»
للخالدي مجموعة من الكتب المرجعيّة عن القضيّة الفلسطينية والسياسة الأميركية (من الويب)

إدارة بايدن منخرطة في نزاع بالوكالة طويل الأمد ومتزايد الحدّة مع روسيا في أوكرانيا. وبعد ضخّها لإمكانات عسكرية، واقتصادية ومالية ضخمة لدعم الطرف الأوكراني، شهِدنا، في الآونة الأخيرة، اتجاهاً لتجاوز الخطوط الحمر الروسية بالنسبة إلى الأسلحة النوعية التي يتمّ إمداد كييف بها، كصواريخ «باتريوت»، والمباركة الأميركية لتسليم الحلفاء الأوروبيين دبابات ثقيلة لها. إلى أيّ مدى ستذهب هذه الإدارة في التصعيد مع موسكو، وكيف يتناغم هذا الأمر مع أولويّتها المعلَنة، وهي التركيز على «المنافسة الاستراتيجية» مع الصين؟
- الاهتمام الأميركي بدعم أوكرانيا وتسليحها في هذه الحرب، يصعب تفسيره للوهلة الأولى، نظراً إلى أن الهدف المركزي المعلَن لهذه الإدارة، منذ وصولها إلى السلطة، وللاستراتيجية الأميركية في العقود المقبلة، هو التصدّي لصعود الصين. لماذا هذا الدعم الكبير لأوكرانيا إذاً؟ أعتقد أنه لا وجود لاستراتيجية موحّدة داخل الإدارة حيال روسيا، بل هناك عدّة استراتيجيات متناقضة مع بعضها. هناك طرف وازن في داخلها يريد إلحاق هزيمة منكرة بهذا البلد، لكنّ أطرافاً أخرى ترى أن المطلوب هو تحسين شروط تفاوض الأوكرانيين معه في المستقبل، عبر مساندتهم عسكريّاً. بايدن نفسه من أقلّ المتحمّسين لحرب طويلة مع روسيا، نتيجة لاهتمامه أساساً بالمواجهة مع الصين. لا يزال العديد من الأميركيين ينظرون إلى روسيا على أنها قوّة من الدرجة الثانية، على عكس قوّة من الدرجة الأولى كالصين اليوم، أو كالهند مستقبلاً. لذلك، أقول إنه من الصعب جدّاً تفسير سياسة واشنطن تجاه هذا الموضوع. ذكرتم إرسال بطاريات «باتريوت» إلى الأوكرانيين، وكذلك الموافقة الأميركية على تسليم دبابات ثقيلة لهم، دبابات« ليوبارد-2» الألمانية بشكل رئيس، والتي توجد 3600 منها لدى جيوش أوروبية. الأوكرانيون يعتبرون أن غايتهم هي استعادة جميع الأراضي التي سيطر عليها الروس منذ عام 2014، وهي غاية أظنّ أنها غير واقعية بنظر الأميركيين والأوروبيين الذين يطمحون إلى تعديلٍ لميزان القوى الميداني، تمهيداً للتفاوض. غير أن ذلك لا يلغي حقيقة أن مواقف جميع هذه الجهات الأميركية والأوروبية والأوكرانية، صعبة الفهم والتفسير.

«التنافس الاستراتيجي» بين الصين والولايات المتحدة يتضمّن، إضافة إلى أبعاده التكنولوجية والاقتصادية والتجارية والسياسية، ارتفاعاً في منسوب التوتّر العسكري حول تايوان وفي بحر الصين الجنوبي. هل تستطيع واشنطن المواءمة بين هذا التنافس، وبين ما ستمليه الحرب في أوكرانيا من تعبئة للموارد والإمكانات؟
- هناك نقطتان ينبغي الالتفات إليهما في هذا السياق: الأولى، هي أن التوتّر الذي أشرتم إليه على المستوى العسكري لم يمنع مفاوضات أميركية - صينية هادئة بين جانيت يلين، وزيرة الخزانة الأميركية، ونظيرها الصيني، ولا البيان الختامي الإيجابي بعد اللقاء بينهما. وقد حصلت لقاءات سابقة مشابهة، «إيجابية» إن صحّ التعبير، بين مسؤولين أميركيين وصينيين. التصعيد على المستوى العسكري، وكذلك الاقتصادي، بعد الإجراءات التي اتّخذتها إدارة بايدن بحقّ الصين، يتوازيان مع مساعٍ للتهدئة. تخوض الولايات المتحدة حرباً بالوكالة ضدّ روسيا في أوكرانيا، من دون تكبّد خسائر بشرية، كما كان الحال في أفغانستان والعراق. هناك أكلاف مالية واقتصادية للحرب، ولكن هناك أيضاً الأرباح الضخمة التي تحقّقها صناعات الأسلحة الأميركية التي تعمل ليلاً ونهاراً حاليّاً. الأوكرانيون والروس هم مَن يدفع الأثمان الباهظة للنزاع. أمّا النقطة الثانية، فهي تتعلّق بتراجع الموقع الدولي للولايات المتحدة اليوم، التي باتت حصّتها من التجارة العالمية لا تتعدّى نسبة الـ12% من مجملها. هي لم تَعُد العملاق الاقتصادي الذي هيمن على العالم بعد الحرب العالمية الثانية. لا يمكن للأميركيين التوهُّم بأنهم سينجحون في المنافسة الاقتصادية مع الصين أو حتى مع الهند مستقبلاً. هم قادرون، إلى الآن، على المجابهة على المستوى العسكري، ولكن ليس على المستوى الاقتصادي.
الأميركيون قادرون، إلى الآن، على المجابهة على المستوى العسكري، ولكن ليس على المستوى الاقتصادي


لماذا لم يتمّ التوصُّل من قِبَل الإدارة إلى تفاهم مع إيران يسمح بالعودة إلى الالتزام بالاتفاق حول برنامجها النووي؟
- لا أتوقّع تغيّراً في الموقف الأميركي الرافض للعودة إلى الاتفاق النووي راهناً، لكن هذا الأمر قد يتغيّر، كما تؤكد التطوّرات في السياسة الأميركية تجاه فنزويلا مثلاً. لم يتوقّع أحد، في الفترات السابقة، حدوث مثل هذا التحوّل في موقف واشنطن من كاراكاس، والعقود التي يتمّ إبرامها بين شركات الطرفَين، ووقْف دعم معارضي مادورو. هناك تحسُّن ملموس في العلاقات بين البلدَين، وربّما نشهد الأمر نفسه مع كوبا. عوامل كثيرة أفضت إلى ذلك، وفي مقدّمتها اتّجاه أسعار النفط والطاقة صعوداً، والمرشّح للاستمرار في الفترة المقبلة بعد تخلّي الصين عن سياسة «صفر كوفيد». قد تضطرّ الولايات المتحدة، في مثل هذه الظروف، للسعي إلى التفاهم مع إيران لأن ليست لديها الإمكانية، هي وبقية حلفائها الغربيين، لتأمين 200 مليون برميل إضافي من النفط للسوق العالمية. إيران لديها هذه القدرة. الأسباب «النفطية» التي حملتْها على تطبيع علاقاتها مع فنزويلا، يمكن أن تدفعها إلى تعاطٍ مختلف مع طهران.

الحكومتان الإسرائيليتان، السابقة والحالية، لا تتوقّفان عن التحذير من «الأهوال» المترتّبة على رفع إيران مستويات تخصيبها لليورانيوم. هل من المحتمل أن تعطي واشنطن الضوء الأخضر لعملية إسرائيلية ضدّ المنشآت الإيرانية؟
- لا أتوقّع ذلك. بطبيعة الحال، لا يمكن استبعاد إقدام (بنيامين) نتنياهو على خطوات جنونيّة، كاتّخاذه مثل هذا القرار من دون العودة إلى واشنطن. غير أن التبعات الناجمة عنه ستكون خطيرة جدّاً، ما يجعلني أستبعد هذا الاحتمال. مصداقية نتنياهو منهارة في الولايات المتحدة نتيجة للحكومة التي شكّلها. الدعم العلني لإسرائيل في أدنى مستوياته في الداخل الأميركي بسبب الائتلاف الحاكم فيها حالياً، والذي فاز أيضاً بالأغلبية الساحقة في «الكنيست». ردّة الفعل في الولايات المتحدة، بما فيها تلك الصادرة عن الأوساط الصهيونية، سلبية جدّاً. للمرّة الثانية، يشنّ توماس فريدمان، مثلاً، هجوماً حادّاً على نتنياهو وحكومته في «نيويورك تايمز». في مثل هذه الأجواء، لا أظنّ أن مغامرات عسكرية إسرائيلية ضدّ منشآت إيرانية ستحظى بدعم أميركي. في الماضي، كان نتنياهو يتمتّع بقاعدة مسانِدة في «الحزب الجمهوري»، وبين قيادات «الحزب الديمقراطي». اختلفت الأوضاع اليوم، وهناك استياء شديد منه، ليس بسبب موقفه من الفلسطينيين، بل نتيجة للتعديلات الدستورية التي تنوي حكومته إجراءَها، كتلك المتعلّقة بتحديد مَن هو اليهودي، أو لمقارباتها المحافظة لقضايا اجتماعية. هذه المعطيات، إضافة إلى عدم رغبة واشنطن في التورط في حرب ثالثة في الشرق الأوسط في نفس الوقت الذي تخوض فيه حرباً بالوكالة مع روسيا في أوكرانيا ومواجهة استراتيجية مع الصين، ستحول دون توفيرها غطاء لجموح نتنياهو.

سياسة الإدارة الحالية حيال القضيّة الفلسطينية لا تقلّ سوءاً عن تلك التي اعتمدتها سابقتها، وآخر تجلّياتها بناء سفارتها في القدس على أراضٍ مصادَرة من عائلات فلسطينية، ومنها عائلة الخالدي. ما هو تعليقكم؟
- لا تقلّ سياسة بايدن سوءاً عن سياسة ترامب. الموافقة على نقل السفارة إلى القدس، وبناء أخرى جديدة. جميع الخطوات التي اتّخذتها إدارة ترامب قَبلت بها الإدارة الحالية. وقد عرفت أخيراً، ومن عدّة مصادر في الولايات المتحدة وفلسطين، أن العديد من الخطوات التي تتّخذها السفارة الأميركية لدى إسرائيل، تتمّ من دون موافقة واشنطن. على سبيل المثال، قمنا كعائلة، مع العائلات الأخرى المالكة للأراضي التي كانت مركزاً للقوات البريطانية أيّام الانتداب، وتُسمّى «ثكنات اللنبي»، والتي تمّت مصادرتها لإقامة السفارة الأميركية عليها، بتقديم شكوى عبر منظمة «عدالة» الفلسطينية غير الحكومية، للجنة التخطيط في القدس، وأرسلنا عريضة إلى وزير الخارجية الأميركي، عبر سفارته في القدس. عرفنا، بعد ذلك بشهر، أن العريضة لم تصله. السفارة الأميركية في القدس، برئاسة السفير توماس نايدز، الصهيوني المعروف، لديها سياستها الخاصّة تجاه هذه المسألة، وربّما مسائل أخرى. والخارجية الأميركية لا تحرّك ساكناً لمعالجة هذا الوضع. لا تغيّر إطلاقاً في السياسة الأميركية بالنسبة إلى القضية الفلسطينية، أو القضايا العربية بشكل عام.

المفكّر الفلسطيني