تدْخل تركيا العام الجديد مصحوبةً بصراع سياسي حادّ، وأزمة اقتصادية خانقة، سيكون لنتائج رئاسيات 2023 دورٌ رئيس في تحديد مآلاتهما. ذلك أن السؤال اليوم يدور حول بقاء رجب طيب إردوغان في السلطة من عدمه، مع ما يعنيه كِلا السيناريوَين من تداعيات، بالنظر إلى ضخامة التحوّل الذي أحدثته هذه الشخصية في تركيا منذ وصول حزبها إلى السلطة عام 2002. وعلى رغم الخسارات السياسية الداخلية والخارجية التي مُني بها إردوغان، وتَراجع شعبيّته بسبب تدهور الوضع الاقتصادي، إلّا أن انقسام المعارضة وتشتّتها، والسياسات «التنكيلية» التي تنتهجها الحكومة ضدّها، قد يمنحان الرجل فرصة إضافية للفوز بالحُكم، الذي ما فتئ يزداد تفرّداً
بقدْر ما كان عام 2002 مفصلياً في تاريخ تركيا الحديث، قد لا يكون عام 2023 أقلّ أهمية منه. ففي الأوّل، وصل «العدالة والتنمية» إلى الحُكم بمفرده، ولم يكن ذلك مجرّد تناوب بين أحزاب على السلطة، بل يمكن اختصار ما فعله الحزب بالتالي:
1- كان وصول «العدالة والتنمية»، بوصْفه تيّاراً إسلامياً سياسياً، إلى الحُكم، بمثابة ثورة مضادّة وانقلاب على ما سُمّي «ثورة أتاتورك» ومبادئها العلمانية. إذ لم يُفوّت الحزب أيّ فرصة لإظهار عدائه لمبادئ النظام «الأتاتوركي»، ومحاولة تغيير بنية الدولة، لتكون، كوادر ووظائف، أقلّ علمانية وأكثر إسلامية، وهو ما تجلّى بوضوح في القطاع التربوي والتعليمي.
2- مثّل استلام «العدالة والتنمية» السلطة، فرصة لتغيير النظام السياسي الذي كان قائماً منذ إعلان الجمهورية عام 1923، وإحلال نظام رئاسي بدلاً من البرلماني، وإلغاء الحكومة، ومنْح رئيس الجمهورية صلاحيات مطلقة، وذلك في استفتاء عام 2017، والذي بدأ تطبيقه عام 2018.
3- كسَر هذا التحوّل شوكة النفوذ التاريخي للمؤسّسة العسكرية، وأخْضعها لسلطة المدنيين، وبالتالي أتاح تحصين السلطة من خطر الانقلابات العسكرية.
4- جرى الانقلاب على شعار «سلام في الوطن، سلام في العالم» الذي رفعه أتاتورك، في إشارة إلى ضرورة ترتيب تركيا لبيتها الداخلي، والامتناع عن التورّط في الصراعات الإقليمية والدولية. وكان من ثمار الانقلاب «الإردوغاني» إحياء «العثمانية الجديدة» في اتّجاه محاولة الهيمنة على المنطقة العربية والإسلامية والبلقانية والقوقازية، سياسياً (كما في مصر وتونس والمغرب)، وجغرافياً (كما في سوريا والعراق وليبيا)، ما أمكن ذلك.
على أن ذلك الانقلاب الكبير ما كان ليتمّ لولا وجود شخصية مقدامة ومغامِرة مِن مِثل رجب طيب إردوغان، مستعدّة للذهاب إلى أبعد نقطة ممكنة في تنفيذ المشروع المفنَّد آنفاً. ومن هنا، سيكون غيابه، في حال حصل، عن مسرح التاريخ التركي تحوّلاً كبيراً في الحياة السياسية والسياسة الخارجية، سيُعيد الصراع في تركيا إلى نقطة الصفر، وسيطلق مرحلة جديدة لا يمكن التنبّؤ بما ستنتهي إليه. وستعتمد طبيعة الصراع المُتوقَّع مستقبلاً، على مدى قبول التيار الإسلامي بانتقال السلطة الذي يمكن أن يَحدث، ومَخاطر تَحوّل أيّ رفض لهذا الانتقال إلى حرب أهلية.
في انتخابات عام 2018 النيابية، افتقد «العدالة والتنمية» الغالبية المطلقة في البرلمان (289 مقعداً من أصل 600 مقعد)، فلجأ إلى الاستعانة بحزب «الحركة القومية» (47 نائباً) لتمرير القرارات التي تحتاج إلى النصف زائداً واحداً (301). مذّاك، بات الأوّل رهين الثاني، من دون أن يتمكّن تحالفهما من تحصيل غالبية الثلثين (400) اللازمة لتعديل الدستور في البرلمان، أو غالبية الـ363 صوتاً الضرورية لتحويل أيّ اقتراح لا ينال تأييد الثُلثين في مجلس النواب إلى استفتاء شعبي. في الانتخابات النيابية المقبلة، والتي ستَجري بالتزامن مع الانتخابات الرئاسية، سترتسم خريطة جديدة للبرلمان، تُقدّر استطلاعات الرأي أن «العدالة والتنمية» سينال حوالى 34 في المئة من مقاعدها، و«الحركة القومية» قرابة 8 في المئة منها. وفي جميع الأحوال، فلن يحصل الحزبان مجتمعَين على الأكثرية، فيما ستتقاسم أحزاب المعارضة الكثيرة النسب المئوية المتبقّية. ومع أن دور مجلس النواب تراجَع كثيراً بموجب التعديل الدستوري لعام 2017، إلّا أنه يبقى ممرّاً إلزامياً للعديد من القرارات والقوانين الحيوية في الحياة السياسية والاجتماعية وفي السياسة الخارجية.
تدْخل تركيا المعركة الرئاسية فيما إردوغان يسابق الزمن من أجل لجْم النتائج الخانقة للأزمة الاقتصادية


ومن ثمّ، تأتي الانتخابات الرئاسية، والتي هي بيت القصيد ومربط الخيل. إذ تحوَّل موقع رئاسة الجمهورية في التعديل المذكور إلى مركز السلطات المطلقة، فيما بات شاغلُه الحاكم المطلَق بأمره من دون مبالغة. ولقد نجح إردوغان في أن يكون ذلك الحاكم المطلَق في أعقاب رئاسيات 2018، غير أن الانتخابات البلدية التي جرت بعدها بعام غيّرت مزاجه وقلبتْه رأساً على عقب. إذ لم تسفر فقط عن خسارة حزبه أهمّ بلديتَين في تركيا هما أنقرة وإسطنبول، بل إن استطلاعات الرأي اللاحقة كانت تعكس تراجعاً تدريجياً في شعبية إردوغان نفسه كمرشّح للرئاسة، مُظهِرة أنه في حال اتّفقت المعارضة على أكرم إمام أوغلو، الفائز برئاسة بلدية إسطنبول، مرشّحاً لها، ومع دعم له ولو جزئي من الأكراد، فإنه يستطيع أن يهزم الرئيس الحالي. وعلى هذا، بدأت توازنات السياسة والاستقرار تتغير.
إزاء ما تَقدّم، يلاحَظ أن إردوغان بدأ يتّبع السياسات نفسها التي كان انتهجها عام 2015 ضدّ خصومه؛ ففي انتخابات ذلك العام، فقدَ «العدالة والتنمية» الأكثرية في البرلمان، ما حمل رئيسه على إعادة الانتخابات بعد أربعة أشهر، ليفوز الحزب بها من جديد، ويستعيد الغالبية المطلَقة، ولكن بعدما أمعنت الحكومة في التنكيل بالمعارِضين، مُوقِعةً في صفوفهم عشرات الضحايا. الآن، ومنذ الانتخابات البلدية الأخيرة، أقالت حكومة إردوغان عشرات رؤساء البلديات الكردية المنتخَبين، وعيّنت بدلاً منهم مُوالين له، كما اعتقلت الكثير منهم وأودعتْهم السجن. أيضاً، زُجّ بالعديد من المنتمين إلى «حزب الشعوب الديموقراطي» الكردي في السجن، بعدما وُضع فيه، في عام 2017، رئيس الحزب نفسه، صلاح الدين ديميرطاش، حيث لا يزال خلْف قضبانه حتى اليوم. وبدا الهدف النهائي من كلّ تلك السياسات، تمزيق وحدة الصوت الكردي، ووضْع الناخب الكردي تحت الضغط والتهديد، فيما واصل إردوغان استعراض القوة ضدّ الأكراد في الخارج، من طريق تنفيذ عمليات عسكرية ضدّ «حزب العمال الكردستاني» في شمال العراق، والتهديد بتنفيذ عمليات عسكرية في شمال سوريا، من أجل تعويم نفسه كبطل قومي يحمي الأمن القومي التركي من التهديدات الآتية عبر الحدود.
على المقلب الآخر، غير الكردي، تداعت ستّة أحزاب معارِضة في شباط 2022، إلى الالتقاء وتشكيل ما سُمّي بـ«طاولة الستّة» من أجل مواجهة إردوغان ومحاولة الإطاحة به. وضمّت «الطاولة» الأحزاب التالية: «الشعب الجمهوري» برئاسة كمال كيليتشدار أوغلو، «الجيد» برئاسة مرال آقشينير، «السعادة» برئاسة تيميل قره مللا أوغلو، «الديموقراطية والتقدّم» برئاسة علي باباجان، «المستقبل» برئاسة أحمد داوود أوغلو، و«الديموقراطي» برئاسة غولتكين أويصال. ومنذ لقائهم الأوّل، يبحث هؤلاء عن جواب لسؤال واحد: كيف يمكن هزْم إردوغان؟ وبأيّ مرشّح؟ لا شكّ في أن الإجابة ليست سهلة، وتحتاج إلى حسابات سياسية ورقمية كبيرة. فبالأرقام، يمكن أن يَجمع التحالف المعارِض نحو 44 في المئة، فيما يَجمع التحالف المُوالي نحو 42 في المئة، لتبقى أصوات «الشعوب الديموقراطي» (10 في المئة) هي بيضة القبّان. ولكن الحزب الكردي شكّل مع أحزاب يسارية «تحالف العمل والحرية»، وهو سيرشّح ضمناً رئيسه السابق صلاح الدين ديميرطاش المسجون، أو أيّ مرشّح آخر. وهذا يعني أن الانتخابات الرئاسية ستتّجه إلى دورة اقتراع ثانية، حيث سيكون الحزب الكردي مستعدّاً لمنْح أصواته للطرف الأقدر على تلبية مطالبه.
لكن المشكلة الجديدة التي ظهرت تتعلّق بمرشّح المعارضة. فزعيم «الشعب الجمهوري» كان ولا يزال يُراهن على تأييد الأحزاب الستّة كمرشح مشترك، علماً أن كيليتشدار أوغلو شخصية قيادية تتمتّع باحترام ودعم بالفعل. لكن «الجيّد» يعارض ترشيحه، ويرى أن معركته ستكون خاسرة سلفاً، ويشدّد على ضرورة التقدّم بمرشّح أكثر قبولاً، بل إن البعض يَعتبر أن انتماء الرجل العَلوي سوف يُفقده دعم فئات سُنّية كثيرة. ومع القرار المبدئي للقضاء التركي، سجْن رئيس بلدية إسطنبول، أكرم إمام أوغلو، ومنْعه من العمل السياسي، بعدما أظْهرته استطلاعات الرأي بوصْفه المنافس الأقوى لإردوغان، تبدو المعارضة أكثر ارتباكاً؛ فلا كيليتشدار أوغلو عليه إجماع، ولا ترشيح إمام أوغلو مضمون. إذ ماذا سيحصل لو رشّحت المعارضة إمام أوغلو، ومن ثمّ صدرَ قرار قضائي نهائي من المحكمة العليا بتثبيت السجن والحظر السياسي عليه؟ في هذه الحالة، وحتى لو فاز بالرئاسة، فالمحكمة لن تُسلّمه «محضر الفوز»، وستأمره بالتنحّي، وفق ما أعلن رئيس «اللجنة العليا للانتخابات»، محرم آق قايا، الأمر الذي أثار اتّهامات للجنة بالتحوّل إلى لاعب في الصراع السياسي. أمّا الذهاب إلى خيار ثالث مِن مِثل رئيس بلدية أنقرة، منصور ياواش، فدونه اعتراض الحزب الكردي، بالنظر إلى ميول ياواش القومية شديده البروز. على أن المعارضة لا تستطيع أن تتأخّر كثيراً في إعلان مرشّحها، على اعتبار أنه لم يتبقّ للانتخابات سوى خمسة أشهر، فيما يحتاج المرشّح إلى وقت للقيام بجولات انتخابية في كلّ أنحاء البلاد، ومحاولة إقناع الرأي العام ببرنامجه، ولا سيما إذا كان إردوغان هو المرشّح المنافس له. والجدير ذكره، هنا، أن البعض لا يزال يُراهن على أن إردوغان لا يحقّ له دستورياً الترشّح للانتخابات الرئاسية للمرّة الثالثة، لأنه ترشّح أوّل مرّة عام 2014، ومن ثمّ عام 2018. غير أن الرئيس الحالي يبرّر ترشّحه بأنه يأتي وفقاً للدستور الجديد الذي بدأ تطبيقه عام 2017، وليس وفقاً للدستور القديم.
تدْخل تركيا المعركة الرئاسية فيما إردوغان يسابق الزمن من أجل لجْم النتائج الخانقة للأزمة الاقتصادية، التي كانت أحد الأسباب الرئيسة لتراجع شعبيّته، حيث وصل التضخّم إلى 180 في المئة، وانهارت القيمة الشرائية لليرة إلى أكثر من النصف. كما تلقّى الرئيس الحالي التداعيات السلبية لوجود اللاجئين السوريّين، في ظلّ الاتّهامات المُوجَّهة إليه بأن هذه التداعيات إنّما هي نِتاج سياساته الخاطئة تجاه سوريا منذ بدء الأزمة هناك. ومن هنا، فالحركة الخارجية النشطة للرئيس، والمصالحات التي يعكف على عقْدها مع بعض الدول وآخرها محاولة المصالحة مع سوريا، إنّما تستهدف دعوة الناخبين إلى التصويت له لـ«مرّة أخيرة» قبل أن يذهب إلى التقاعد. وما بين الوضع الحرج لإردوغان، والمرتبك للمعارضة، قد لا يكون مستبعَداً وفقاً للبعض، أن يلجأ الأوّل إلى انتخابات رئاسية صاعقة ومبكرة جدّاً، قبل أن تستجمع الأخيرة صفوفها، وقبل أن تتّجه الأوضاع إلى مزيد من الانهيار. وفي جميع الأحوال، ستكون تركيا أمام منعطف كبير في حال خسارة الرئيس الحالي، في حين سيطرح فوزه تساؤلات كثيرة عن احتمال إطباق ذهنية حُكم الرجل الواحد على الحياة السياسية والاجتماعية في تركيا لعقود مقبلة.