الهزّات الارتدادية للزلزال المتمثّل في الحرب في أوكرانيا، بدّدت جملة من القناعات الراسخة
لقد «تجرّأت» روسيا على التدخّل العسكري المباشر في أوكرانيا، على رغم علمها بضخامة القدرات العسكرية النوعية التي قام الغرب بضخّها إلى الأخيرة، وبما سيقوم بضخّه بعد هذا التدخل، وأصبح السؤال المركزي في الأيام التي تلت هو حول نوايا الصين حيال تايوان. في كلّ الأحوال، توصّلت دول كألمانيا، وأخيراً اليابان، إلى استنتاجات هاس نفسها، بعد أن ظنّت لعقود بإمكانية تخصيص القسم الأعظم من مواردها للنموّ الاقتصادي، ما يفسّر زياداتها الضخمة لإنفاقها العسكري. غير أن التحدّي المطروح على جميع دول العالم، غربية كانت أو غير غربية، لا يقتصر على زيادة الإنفاق العسكري، بل يشمل أيضاً إعادة تكييف قاعدتها الصناعية العسكرية، ومنظومات سلاحها، لتتلاءم مع الشكل الجديد للنزاعات، والذي يتجلّى حالياً في أوكرانيا. فالحروب، وما يتخلّلها من معارك وعمليات عسكرية، هي من منظور الجيوش وهيئات أركانها، ساحات اختبار حيّة لعقائد القتال ومنظومات السلاح.
الحرب في أوكرانيا ذات طبيعة مركّبة، تَدمج بين أنماط تقليدية من القتال ومن منظومات السلاح، وبين أخرى أكثر حداثة. فقد تَلازم الزجّ بعشرات آلاف الجنود ومئات المدرّعات في جبهات ممتدّة على مئات الكيلومترات، مع استخدام واسع النطاق للمسيّرات والصواريخ والذخائر الذكية، بشكل لا سابق له في جميع النزاعات الماضية. النقطة الأخرى التي تستوقف الخبراء العسكريين هي الأكلاف الباهظة، البشرية والعمرانية والمادّية، لمِثل هذا النوع من النزاعات. يجري الحديث، من دون تحديد دقيق لاعتبارات سياسية وعسكرية، عن عشرات آلاف القتلى والجرحى لطرفَي الحرب، إلى جانب الأرقام المهولة التي يتمّ تداولها حول أثمانها المادّية. اعتقد بعض هؤلاء الخبراء، وخصوصاً الغربيين منهم، ومعهم أجهزة الدعاية الإعلامية - الإيديولوجية، أن الاستخدام المكثَّف لآخر ابتكارات التكنولوجيا العسكرية الذكية، وما نجم عنه في أواخر الصيف الماضي من تقدُّم أوكراني في الميدان، كفيلٌ بإلحاق سلسلة هزائم عسكرية بروسيا ستُفضي على مدى ليس ببعيد إلى اندحار جيشها وانسحابه الكامل من جميع الأراضي التي سيطر عليها منذ عام 2014، بل وذهب بعض أصحاب هذه التحليلات، من غير الخبراء العسكريين، كروبرت كابلان وآن إبيلبوم، إلى تَوقّع سقوط «منظومة بوتين» في روسيا نفسها، وتفكُّك هذا البلد بفعل نكبته في أوكرانيا. لكن سيْر المعارك خلال الأشهر الماضية، واتّضاح الطبيعة الموضعية للاختراقات الأوكرانية، والخسائر الضخمة التي تكبّدها الأوكرانيون على الجبهة وفي عمق البلاد، نتيجة للاستهداف الروسي المنهجي للبنى التحتية، ونجاح الجيش الروسي في تثبيت خطوطه الدفاعية تمهيداً لهجوم جديد يعدّ له في أواخر الشتاء، جميعها معطيات دفعت مسؤولين غربيين، وبعض المحلّلين، إلى «التفكير بصوت عال» حول ضرورة اتّباع خيار التفاوض في النهاية. وحتى مَن لا يتطرّق إلى الخيار المذكور، كالأمين العام لـ«الناتو»، ينس ستولتنبرغ، المدفوع بحقد محموم ضدّ الروس، بات يجزم أن الحرب ستطول، ويتجاهل سيناريوات النصر السريع التي شاعت.
فرضية الحرب الطويلة، وما سيتخلّلها من عمليات كرّ وفرّ، وما ستُسبّبه من خسائر بشرية ومادّية إضافية، ومن تداعيات كارثية اقتصادية وسياسية على الصعيد الدولي، هي التي تَحمل جدعون راشمان، المعلّق الرئيس حول الشؤون الدولية في «فايننشال تايمز»، إلى استشراف احتمال تكرار «سيناريو كوريا» في أوكرانيا. يَعتبر راشمان أن عدم قدرة أيّ من الطرفين على الحسم الكامل، واستحالة التوصّل إلى تسوية نظراً إلى التناقض الجذري بين مواقفهما، واستمرار استنزافهما بشرياً ومادّياً، هي في مجملها عوامل قد تفضي إلى وقفٍ لإطلاق النار، تليه اتّفاقية هدنة مديدة، شبيهة بتلك التي تمّت بين كوريا الشمالية وكوريا الجنوبية في 27 تموز 1953، والتي أدّت إلى وقف للأعمال العدائية، من دون أن تتبعها اتّفاقية سلام. الأكيد، أيّاً كانت مآلات الحرب في أوكرانيا، هي أنها افتتحت مرحلة جديدة في مسار احتدام الصراعات الدولية، وتسارُع تفكّك منظومة السيطرة الغربية، «النظام الدولي الليبرالي»، وأن من يستعدّ لخوض نزاعات الغد يسعى جاهداً للتعلّم من دروسها، لأنه كثيراً ما تبدأ الحرب الجديدة من حيث توقّفت سابقتها.