الجهة الأقدر على تعبئة قدراتها الصناعية والبشرية هي التي ستتغلّب في النهاية عودة الصراعات العالية التوتّر كشفت عدم أهلية الصناعات العسكرية الأوروبية

يقدّم تيبو فويي، ضابط المدفعية السابق في الجيش الفرنسي، والباحث في «وقفية الدراسات الاستراتيجية»، في مقابلة مع «الأخبار»، أبرز دروس الحرب الأوكرانية من منظور المؤسسة العسكرية الغربية

منذ نهاية الحرب العالمية الثانية، لم تَعُد أوروبا مركزاً للنزاعات. لكنّ الحرب الأوكرانية أتت لتُغيّر هذا الواقع، وتُجدّد نمطاً تقليدياً من النزاعات، مشابهاً لذلك الذي ساد خلال القرن العشرين. ما هي القراءة العسكرية الغربية لهذه الحرب؟
- نشهد عودة للحروب العالية التوتّر، وفقاً لنموذج القرن العشرين، في قلْب أوروبا، ما يقود إلى عمليات إعادة تكيّف استراتيجية لجميع الأوروبيين والغربيين. هناك بطبيعة الحال تقييمات مختلفة بينهم لِما وقع في أوكرانيا، وكذلك درجات متفاوتة من التفاجؤ حياله. بالنسبة إلى دول البلطيق، المفاجأة الاستراتيجية حصلت في عام 2014. هي تَنظر إلى التطوّرات الحالية على أنها مرحلة جديدة من تلك التي بدأت في ذلك التاريخ، وهي لطالما حاولت تحذير بقيّة الدول الأوروبية من المخاطر المترتّبة عليها، خاصة دول كفرنسا وألمانيا. الفرنسيون تأقلموا بسرعة أكبر من الألمان مع منطق الحرب الحالي نتيجة لاعتيادهم المشاركة في عمليات عسكرية خارجية، على عكْس الألمان الذين احتاجوا إلى وقت أطول للخروج من حالة الصدمة. هناك فارق أكبر، على المستوى الغربي العام، بين الأميركيين والأوروبيين، تبدّى من خلال الحجم الهامّ للمساعدة المُقدَّمة لأوكرانيا من قِبَل واشنطن. لدى الولايات المتحدة مقاربة للمنافسة الاستراتيجية لم تتراخَ، على الرغم من تركيزها على الصين في الآونة الأخيرة، ما يمنحها إمكانية للاستشراف والتأقلم مع انفجار النزاعات، تفوق تلك التي لدى الأوروبيين. تراجُع محورية الحرب في الأجندة السياسية للأخيرين يفسّر تأخُّر صناعاتهم العسكرية عن تلبية الاحتياجات الطارئة وانحدار قدراتهم.

النزاع في أوكرانيا يتضمّن في الآن نفسه بُعداً تقليدياً، وكذلك بُعداً مستجدّاً، مرتبطاً بآخر ابتكارات التكنولوجيا العسكرية. ما هو تحليلكم لهذا البُعد الثاني؟
هي حرب من نمط حروب القرن الـ20 على المستوى العملياتي، والوسائل والأسلحة المستخدَمة، وكثافة عديد المُشاة والمدرّعات، ومركزية دور المدفعية. هي بعيدة جدّاً بهذا المعنى عن عقيدة غيراسيموف (الحرب الهجينة)، وغيرها من العقائد التي انتشرت في السنوات الماضية، والتي تقدّم بمجملها رؤًى لِما ستصبح عليه الحرب بعد عقد أو عقدَين. لكننا، وفي الوقت نفسه، لا يمكننا أن نتجاهل الأبعاد التكنولوجية الجديدة في تلك الجارية على الأرض الأوكرانية. هي أدّت إلى تجاوز التناقض المفترَض بين «الكمّ» و«النوع» أو بين «التكنولوجيا» و«الحشد الكثيف للقوات». من جهة، هناك مبادرات خلّاقة، كاللجوء إلى المسيّرات لتأمين الإسناد الجوّي والاستطلاع والاتّصال. من جهة أخرى، فإن مجريات الصراع في الميدان تقليدية إلى درجة كبيرة. هي تتطلّب استخداماً لأسلحة حديثة جدّاً وأخرى قديمة. على مستوى المدفعية مثلاً، من المهمّ جدّاً بالنسبة إلى الأوكرانيين، عندما يقومون بهجوم، أن تكون لديهم منظومات سلاح تتيح ضرْب عمق مناطق العدو، كمدافع «قيصر» الفرنسية، وراجمات «هايمارس» الأميركية، لكنهم يحتاجون أيضاً إلى مدافع «155» التقليدية. تسمح هذه الأخيرة، المتوفّرة بكثرة، بتأمين كثافة نيران على امتداد خطوط جبهة القتال. التآزر بين منظومات السلاح الحديثة والتقليدية هو الذي يمكّن من تحقيق تقدّم في الميدان. مع بداية الهجوم في اتّجاه خيرسون، سمحت مدافع «قيصر» وراجمات «هايمارس» بتدمير الجسور البعيدة، ما أعاق حركة القوّات الروسية وقدرتها على استقدام تعزيزات، وبضرب مخازنها اللوجستية. لكنّ القصف المكثَّف بمدافع تقليدية، لتأمين غطاء للقوّات الأوكرانية المهاجِمة، وتدمير المواقع الأمامية الروسية، كان ضرورياً لدفع الروس إلى الانسحاب. يتجلّى في الحرب الأوكرانية تكامُل بين منظومات السلاح المختلفة، وضمنها تلك الحديثة، من دون أن تكون وحدها العامل المحدِّد في وُجهة تطوّر المعركة.
المسيّرات أنهت عصر السيطرة الحصرية على السماء


ما هو تقييمكم لسير المعارك؟
- إذا أردْنا تقديم توصيف سريع لِما جرى، سنلاحظ أن الروس حاولوا القيام بهجوم سريع شبيه بذلك الذي شنّه الأميركيون في العراق في عام 2003، عبر استخدام القصف المكثَّف والاجتياح البرّي التقليدي. تمّ صَدّ هذه المحاولة، ودخلْنا في مرحلة حرب الاستنزاف، حيث يكتسب التقدّم الميداني طابعاً تكتيكياً، ولا يؤدّي إلى تغييرات استراتيجية. استعادة خاركيف كانت منعطفاً مفصلياً من الناحية العملياتية، لأنها أظهرت قدرة أوكرانية على الانتقال إلى الهجوم، لكنها لم تسمح سوى بالسيطرة على عشرات الكيلومترات، ولم تُفضِ إلى انهيار روسي. الأمر نفسه ينطبق على استعادة خيرسون، الهامّة على المستوى السياسي، ولكن المحدودة الأثر على المستوى العملياتي، إذ إنها أدّت إلى تراجُع خطوط الجبهة بضعة كيلومترات. هذه إحدى سِمات حرب الاستنزاف، حيث يحاول أفرقاء النزاع إنجاز اختراقات موضِعية تقتضي جهوداً مضنية. فبعد كلّ اختراق، لا بدّ من إعادة بناء مخزون الأسلحة والذخائر، وجلْب المزيد من الإمكانات، ما يعني أننا في خِضمّ مواجهة طويلة. وحتى في حال حشْد المزيد من الإمكانات من قِبَل طرفَي النزاع، فإن التقدّم أو الاختراق الذي سيتحقّق لن يقود إلى انقلاب شامل في الموازين. المهمّ هو القدرة على الاحتمال، وعلى تعويض الخسائر في سياقات لوجستية شبيهة بتلك التي عرفناها خلال الحرب العالمية الأولى. الجهة الأقدر على تعبئة قدراتها الصناعية والبشرية هي التي ستتغلّب في المحصّلة النهائية على المستوى العملياتي. يعني ذلك بالنسبة إلى الروس إنهاء الحرب، أو إيجاد شركاء جُدد لأن المخزون الذي يعتمدون عليه يعود إلى المرحلة السوفياتية وهو لم يَعُد كافياً، ما قد يفسّر استدارتهم نحو الإيرانيين. الأوكرانيون، من جهتهم، يراهنون على استمرار الدعم الغربي على المدى الطويل، لأنه يكفل استبدال المعدّات والحصول على قدرات جديدة. لن يستطيع أيّ من الطرفين التفوّق على المستوى الاستراتيجي، إنْ لم ينجح في المحافظة على قدراته في إطار نزاع ممتدّ زمنياً.

يكتسب التقدّم الميداني طابعاً تكتيكياً، ولا يؤدّي إلى تغييرات استراتيجية


ما هي أبرز دروس الحرب حتى الآن؟
- الدرس الأبرز هو ذلك المتعلّق بتجاوُز ثُنائيات الكمّ والكيف، والتكنولوجيا المتطوّرة في مقابل القدرات التقليدية. في الحروب المرتفعة التوتّر، لا بديل من الدمج بين هذه القدرات.
الدرس الثاني الهامّ، مرتبط بانتشار القدرة على استخدام التكنولوجيا وإنتاج «فقاعات حرمان من الأجواء»، بفضل أنظمة الدفاع الجوّي المتحرّكة والمسيّرات، ما يسمح بمنع سيطرة حصرية على السماء لأيّ طرف. لم تَعُد هذه السيطرة الحصرية ممكنة نتيجة للدمج الفعّال بين الوسائل التكنولوجية، ما يعطي قدرة لقوّة صغيرة على تحدّي التفوّق الجوي لقوّة كبرى على صعيد محلّي. نرى ذلك مع الأوكرانيين، وسبق أن لاحظناه بالنسبة إلى أذربيجان. المسيّرات تتيح لدولة لا تمتلك سلاح طيران، الحصول على إسناد جوّي متقدّم.
أخيراً، هناك درس عام على الصعيد العسكري: عودة الصراعات العالية التوتّر تكشف عدم أهلية الصناعات العسكرية، باستثناء تلك الأميركية أو الصينية، للتعامل مع هذا الواقع. لقد اخترْنا تخفيض الميزانيات المخصَّصة للصناعات العسكرية، مع ما ينجم عن ذلك من ضعف في المخزون الاستراتيجي والإمكانات، يحدّ من القدرة على خوض صراعات طويلة، على عكْس ما كان عليه الوضع في القرن الماضي.