لم يمرّ عام 2022 عادياً على أوروبا. للمرّة الأولى منذ 80 عاماً، اقتربت ذيول الحرب من تهديد الأمن الأوروبي بصورة جدّية. كانت أوكرانيا، المرشّحة لنيل عضوية الاتحاد الأوروبي و«الناتو»، على موعد مع اجتياح روسي تحت شعار حماية الأمن القومي لموسكو. للوهلة الأولى، تحضّر العالم لإعلان روسيا نصراً سريعاً على جارتها الغربية. إلّا أنه مع مرور الوقت، بدا للكرملين أن الحرب في أوكرانيا ليست بالسهولة التي تَخيّلها. هي حرب حديثة، بسِمات تكتيكية مغايرة، يَظهر أن الرئيس فلاديمير بوتين وآلته العسكرية لم يَعهداها من قَبل في حروبهما في الشيشان، وجورجيا، وأخيراً سوريا.
مفاجآت أوكرانية برّاً وبحراً وجوّاً
مع بدء روسيا ما سمّته «العملية العسكرية الخاصة» في أوكرانيا، تَوقّع العديد من المحلّلين أن تنتهي تلك الجولة الروسية - الأوكرانية من القتال، سريعاً، وبنصر روسي لا لَبس فيه، انحصر الخلاف في المدى الزمني لتَحقّقه. تَفاجأ العالم، ومن ضمنه حلفاء أوكرانيا أنفسهم في «الأسرة الغربية»، ببطء التحرّك الميداني لروسيا على حدود جارتها الغربية، وقلّة رشاقة آلتها العسكرية التي فقدت الكثير من بريقها وهالتها قياساً إلى فترة ما قبل الحرب. فروسيا، وعلى مدى عشرين عاماً، أنفقت مئات مليارات الدولارات على تحديث الجيش، ليصبح في مصاف أحدث الجيوش، وأكبرها على مستوى العالم. ووفق بعض المحلّلين الغربيين، فإن الإشادة بالمستوى التكنولوجي الرفيع والمتقدّم للمعدّات العسكرية الروسية خلال الأيّام الأولى للحرب، انحسر تدريجياً بعد الأداء العسكري الروسي، الذي بدا دون التوقّعات. ومن هذا المنطلق، يَلفت أستاذ العلوم السياسية في «جامعة نورث ويسترن»، ويليام رينو، إلى أن «القوّات الأوكرانية أثبتت أنها أقوى ممّا كان يُعتقد»، مشدّداً على الدور الحاسم الذي لعبتْه المساعدات الاقتصادية والعسكرية، إضافة إلى الدعم الاستخباري المُقدَّم من الغرب، في رفد كييف بما يلزم لكبح التقدّم الروسي، والوقوف في وجهه في أكثر من جبهة، خصوصاً في محيط العاصمة الأوكرانية، وبعض مدن الشرق، كخاركيف، وعدد من المناطق الساخنة الجنوبية كميكولاييف، وأوديسا.
ومنذ الأسابيع الأولى، أصيبت القوّات الروسية بانتكاسات كبيرة، مع تحوُّل الصواريخ المضادّة للدروع، وبصورة خاصة صواريخ «جافلين» الأميركية و«نلاو» البريطانية، إلى مادّة رئيسة في التغطية الإخبارية العالمية. فقد انتشرت مقاطع فيديو أبرزت نجاعتها في التصدّي لأرتال الدبابات والمدرّعات الروسية المتقدّمة بأعداد كبيرة، والتي اعترت تشكيلاتِها وخططَها وتحرّكاتِها داخل الميدان الأوكراني مشكلات جمّة، تراوحت بين فقدان الحافزية لدى بعض التشكيلات على الخطوط الأمامية، وبين صعوبات لوجستية واجهتْها سواءً لناحية نقص الذخائر والمؤن، أو ضعف التجهيز. في المقابل، استفاد الأوكرانيون من عامل الأرض، ونجحوا في تكييفه مع تكتيكات عسكرية تُناسب نوعية الأسلحة المتوافرة لديهم، على غِرار منظومة المدفعية الصاروخية «هيمارس»، وسلاح المسيّرات، إضافة إلى الصواريخ المضادّة للدبّابات والطائرات، وهي تكتيكات أقرب إلى نموذج «الحرب اللامتماثلة». وكانت باكورة الضربات النوعية التي أعلن الأوكرانيون توجيهها للقوات الروسية، هي استهداف الطرّاد «موسكو»، الذي يمكن عدّه نسخة بحرية من منظومة الدفاع الجوّي البعيدة المدى «إس-300»، بصاروخَي أرض - بحر محلّي الصنع من نوع «نبتون»، منتصف نيسان الماضي. الصاروخ أسفر عن غرق الطرّاد الصاروخي، وفق رواية أوكرانيا، التي اختبرتْه عملانياً بعد نحو عامَين من سيطرة الروس على شبه جزيرة القرم عام 2014، وهي رواية نفتْها روسيا، مشيرةً في الوقت نفسه إلى أضرار جسيمة لحقت بجسم «موسكو» جرّاء اندلاع حريق على متْنه.
وعلى مستوى الدفاع الجوّي، كشفت مصادر عسكرية أميركية أن واشنطن زوّدت كييف، بحلول مطلع العام الجاري، بأنظمة مراقبة جوّية متقدّمة، ورادارات متعدّدة المهام، إضافة إلى أكثر من 1400 من صواريخ «ستينجر» القصيرة المدى، المحمولة على الكتف، والتي تتميّز بسهولة نشرها واستخدامها من قِبَل القوات البرّية ضدّ الأهداف الجوّية المُحلّقة على ارتفاع منخفض، ما حدّ من حرية سلاح الجوّ الروسي، وبخاصة سلاح المروحيات. كما تسلّمت كييف، في الآونة الأخيرة، منظومة صواريخ «آيريس تي»، التي تملك القدرة على التصدّي لأهداف جوّية بمدى 40 كيلومتراً، ورصدها على بُعد 250 كيلومتراً.

إخفاق استخباري روسي
عن الاستراتيجية الروسية المعتمَدة في أوكرانيا، يشير موقع «ستاتيستا» الإحصائي إلى أن الرئيس الروسي، فلاديمير بوتين، كان يضع في حساباته شنّ عملية خاطفة وسريعة لا تتعدّى مدّتها 72 ساعة، يتمكّن من خلالها من السيطرة على أجزاء واسعة من البلاد، وإسقاط نظام الرئيس فولوديمير زيلنسكي، أو اعتقال وقتْل رموزه. بدت هذه الخطّة أشبه بسيناريو الغزو الأميركي للعراق عام 2003، لناحية اعتماد نظرية ما سُمّي «الصدمة والرعب»، المرتكِزة على شنّ حملة جوّية كثيفة، بالتوازي مع تنفيذ هجوم برّي واسع النطاق قِوامه أكثر من 170 ألف جندي، معظمهم من الأميركيين والبريطانيين، ما مكّن واشنطن وقتذاك في إطاحة حُكم الرئيس العراقي السابق، صدام حسين، في غضون ثلاثة أسابيع، من دون أن يكلّفها ذلك سقوط أكثر من 200 جندي.
لكن الباحث في التاريخ العسكري، مارك جاكوبسون، يتحدّث عن إخفاق بوتين في تنفيذ استراتيجية «الصدمة والرعب» في حرب أوكرانيا، مشيراً إلى أن استبدال عدد من الجنرالات الروس عقب الحرب، يحمل دلالات في هذا الاتجاه. ويبيّن الأستاذ المحاضر في «جامعة سيراكوز» في ولاية نيويورك الأميركية، أن الافتقار الواضح إلى التخطيط السليم على مستوى القيادة الروسية، وضعف الجهوزيّة على مستوى القوات والعناصر، إضافة إلى الإخفاق في وضع خطط احترازية بديلة ناجعة، حال دون تحقيق رغبة بوتين في تحقيق انتصار سريع وحاسم كما كان يَتوقّع.
بوتين كان يضع في حساباته شنّ عملية خاطفة وسريعة لا تتعدّى مدّتها 72 ساعة

ويضيف جاكوبسون، الذي عمل مستشاراً لدى وزارة الدفاع الأميركية، أن تقديرات بوتين الخاطئة حيال حجم المعارضة الأوكرانية التي سوف يواجهها، هو أحد أوجه ذلك الإخفاق، معتبراً أن الأخير زجّ بقوّاته في حرب لم تكن مستعدّة لها، ووضعَها في موقف ميداني من الصعب على أيّ جيش تقليدي تحقيق الانتصار فيه، في ظلّ تزويد واشنطن كييف بأنظمة تسليحية متقدّمة، كنظام «هيمارس» الذي غيّر قواعد اللعبة. ويَلفت جاكوبسون إلى أن روسيا، وعلى رغم امتلاكها أحد أفضل أجهزة الاستخبارات حول العالم، ارتكبت أخطاء فادحة أفقدتْها أحد أهمّ عناصر قوّتها مقابل أوكرانيا، مشيراً إلى وجود عدّة احتمالات وراء تلك الأخطاء. الاحتمال الأوّل، هو أن القيادة الروسية قد استندت فعلاً في تقديراتها إلى معلومات استخبارية خاطئة، فيما يتعلّق الاحتمال الثاني بحجب مساعِدي الرئيس الروسي معلومات استخبارية صحيحة عنه، وتقديم أخرى مغلوطة أو مضلّلة. أمّا الاحتمال الثالث، فهو أن يكون بوتين قد تجاهَل من تلقاء نفسه التقارير الاستخبارية المُقدَّمة له، بغضّ النظر عن مدى صحّة تقديراتها. ويرجّح جاكوبسون الاحتمال الأخير، معتبراً أن بوتين كان يعتقد في قرارة نفسه أن الروس والأوكرانيين هم شعب واحد، وأنه فور دخول قوّاته أوكرانيا سيتمّ استقبالها بحفاوة من قِبَل الشعب الأوكراني، تمهيداً لتوحيد البلدَين.
بدوره، يذهب الأميرال المتقاعد في البحرية الأميركية، جايمس ستافريديس، إلى القول بأن الاستراتيجية الروسية وجوانبها التكتيكية العملانية في أوكرانيا سيّئة للغاية، لافتاً إلى وجود عيوب في تصميم دبّابات الجيش الروسي، الأمر الذي جعلها هدفاً سهلاً للأوكرانيين المزوَّدين بأنظمة غربية مضادّة للدروع. ويزيد ستافريديس، الذي تولّى سابقاً منصب «القائد الأعلى للحلفاء» في أوروبا ضمن «حلف شمال الأطلسي»، أن إغراق الطرّاد «موسكو»، البالغة قيمته نحو 750 مليون دولار، يشكّل «خسارة حرجة للغاية» بالنسبة إلى روسيا، كون المستهدَف هو أكبر سفينة روسية تتعرّض لهجوم مدمّر منذ الحرب العالمية الثانية. وعلى رغم حديثه عن ضيق هامش الخيارات الميدانية أمام بوتين في الميدان الأوكراني، إلّا أن ستافريديس يَعتبر أن «القوّة النارية لدى روسيا لا تزال كبيرة، في ضوء الإمكانات العسكرية الهائلة التي تمتلكها».

مشكلات لوجستية بالجملة لدى موسكو
وبشأن خطوط الإمداد اللوجستي للجيش الروسي، يشخّص النائب عن «الحزب الديموقراطي» الأميركي، جايسون كرو، الذي سبق أن خدم في صفوف الجيش الأميركي داخل العراق، وفق منظوره، واقع هذه الخطوط، مشيراً إلى أنها عانت من مشكلات ميكانيكية في كثير من الأحيان، لدى تَحرّكها داخل المدن والقرى الأوكرانية، ما جعل القوّات الروسية تعاني في الحصول على الغذاء والماء والوقود، ومواد أساسية أخرى. ويلمّح إلى وجود أوجه قصور رئيسة في عمل تلك القوّات، أبرزها غياب التنسيق العملياتي الفاعل بين مختلف صنوف الأسلحة، ولا سيما بين سلاح المدرّعات والطيران، والذي عدّه أحد أسباب انكشاف التشكيلات البرّية وقوافل الإمداد للقصف الجوّي الأوكراني. وبالمقارنة مع كوْن هذا النوع من التنسيق أحد أهمّ عوامل نجاح الغزو الأميركي للعراق عام 2003، يسهب كرو في الإشارة إلى حجم الإخفاق الروسي على صعيد تحقيق السيطرة الجوّية في أجواء أوكرانيا، سواءً بفعل مقارعة سلاح الجوّ الأوكراني بكثافة للمقاتلات الروسية، كما رأينا في الأيام الأولى للحرب، أو بسبب تعرّض الطائرات الروسية لصواريخ الدفاع الجوّي الأوكراني، ومعظمها غربية المصدر، كمنظومتَي «هوك» و«ستينغر» الأميركيتَين، و«آيريس- تي» الألمانية، فضلاً عمّا تمتلكه أوكرانيا من منظومات روسية كمنظومة «إس-300». كما أشاد بمُواصلة الأوكرانيين استخدام سلاح الجوّ، خصوصاً سلاح المسيّرات، على غرار «بيرقدار» التركية، في استهداف الروس، على رغم امتلاك روسيا أحد أضخم أسلحة الجوّ في العالم، والذي يضمّ في تعداده أكثر من 1500 مقاتلة، وفق «دليل الطيران العالمي» لعام 2022.

يتصاعد الجدل الشعبي والسياسي داخل بعض البُلدان الغربية بشأن جدوى الدعم العسكري والاقتصادي المُقدَّم لكييف


في الإطار عينه، يذهب الباحث في التاريخ العسكري، بيتر منصور، إلى أن عدم تحقيق روسيا التفوّق الجوّي، إضافة إلى ضعف التنسيق العملياتي بين سلاح الجوّ والتشكيلات البرّية المتقدّمة التابعة لها، يعرقلان قدرتها على زعزعة تحرّكات عناصر القوات الأوكرانية على الأرض، وإحباط عملياتهم العسكرية الهجومية. ويزيد الكولونيل الأميركي السابق، الذي عمل تحت إمرة قائد القوّات الأميركية السابق في العراق الجنرال ديفيد بترايوس، أن «القوة الجوّية كانت بمثابة مفتاح نجاح حملة الصدمة والرعب في العراق»، مذكّراً بدورها في تدمير سلاح المدرّعات العراقي، تمهيداً لتقدّم القوّات البرّية الأميركية. أمّا رئيس تحرير موقع «SOFREF» المتخصّص في الشؤون العسكرية، فيلفت إلى أن سلاح الجوّ الروسي يعاني من نقص في قطع الغيار اللازمة لمقاتلاته، مشيراً إلى أن ذلك دفَع موسكو إلى عدم إشراك عدد كبير من طائراتها في الحرب. ويوضح أن ما سبق يشرح أحد أبرز الأسباب الكامنة خلْف إخفاق روسيا في تحقيق السيطرة الجوّية. ويرى أن لجوء سلاح الجوّ الروسي إلى استخدام القنابل غير الموجَّهة (الغبية) في أوكرانيا، يمكن عدّه مؤشّراً إلى نقص مخزون الجيش الروسي من القنابل الموجَّهة (الذكية)، معتبراً أن هناك الكثير من المبالغة إزاء قدرات الجيش الروسي في فترة ما قبل الحرب. وفي المقابل، يشيد بأداء القوات الأوكرانية، واصفاً إيّاها بأنها «على قدْر عالٍ من الذكاء من خلال الطريقة التي تقاتل بها» الجيش الروسي، مؤكداً أن الأوكرانيين باتوا في وضعيّة الهجوم، في إشارة إلى سلسلة من الانسحابات الروسية أخيراً من عدد من المناطق، خاصة خيرسون.

الدعم الغربي لكييف: إلى متى؟
مع ذلك، تشير تقديرات بعض الخبراء إلى تحدّيَين أساسيَين أمام كييف: الأوّل، يتعلّق بتصاعد حدّة الجدل الشعبي والسياسي داخل بعض البُلدان الغربية، بشأن جدوى الدعم العسكري والاقتصادي المُقدَّم لحكومة فولوديمير زيلنسكي، ومصيره في المستقبل، على غرار ألمانيا التي ألمح مستشارها أخيراً إلى أهمية عودة العلاقات مع روسيا إلى سابق عهدها، في معرض تأييده حلّاً تفاوضياً للأزمة الأوكرانية، خصوصاً وأن بلاده، التي لم تقدّم للقيادة الأوكرانية «شيكاً على بياض» في مسألة المساعدات، ولا تزال تُظهر تردّداً في تزويد كييف بالأسلحة التي تطالب بها لمواجهة موسكو، تُعدّ أحد أكبر اقتصاديات الاتحاد الأوروبي التي تأثّرت سلباً بارتفاع أسعار الغاز نتيجة الحرب. وعلاوة على تصاعُد حدّة الاحتجاجات الشعبية والأزمات الاجتماعية داخل عدد من الدول الغربية كالمملكة المتحدة، على خلفية ازدياد تكاليف المعيشة وارتفاع معدّلات التضخم، فقد راجت أنباء في الأسابيع الماضية حول إمكانية تَوجّه عدد من أعضاء الحزب الجمهوري داخل الكونغرس الأميركي إلى مناقشة دعم إدارة الرئيس جو بايدن العسكري والاقتصادي لأوكرانيا، من خلال تقديم مشاريع قوانين من شأنها وضع ضوابط وقيود لتلك المساعدات التي تجاوزت 60 مليار دولار منذ بدء المواجهة. أمّا العامل الثاني، فيتعلّق بمخاوف بدأت تعكسها الصحافة الغربية حول استنزاف الدعم العسكري المُقدَّم لكييف، مخزونات منظومة «حلف شمال الأطلسي»، الأمر الذي سيحتّم إجراء تقييم جديد لكمّية ذلك الدعم وحجمه، في أقرب الآجال.