بعد عشرة أشهر على بدء حرب أوكرانيا، لا يبدو التحالف الغربي على قلب واحد؛ فالولايات المتحدة بدأت، رسمياً، حرباً تجارية ضدّ حلفائها الأوروبيين من خلال التوقيع على مشروع قانون مكافحة التضخم ليصبح قانوناً في آب المقبل، والذي يتضمّن مساعدة الدولة لشركات السيارات، وتلك التي تُنتج مجموعة واسعة من السلع الواقعة تحت خانة قطاع «الاقتصاد الأخضر»، بما في ذلك البطاريات والهيدروجين، بالإضافة إلى معدّات الطاقة المتجدّدة، ما من شأنه أن يضع الصناعات الأوروبية في وضع غير مؤات.هذا الواقع أغضب المسؤولين الأوروبيين الذين اشتكوا من أن الولايات المتحدة تستفيد من الحرب. ووفق مسؤول أوروبي رفيع المستوى، فإن «الحقيقة، إنْ نظرنا إليها من زاوية عقلانيّة، يتبيّن أن الدولة الأكثر استفادة من هذه الحرب هي الولايات المتحدة، لأنها تبيع المزيد من الغاز وبأسعار أعلى، ولأنها تبيع المزيد من السلاح». فمن الناحية الاقتصادية، استفادت أميركا من هذه الحرب، فارتفعت مبيعاتها من السلاح والغاز الباهظ الثمن، وهي تسعى أيضاً إلى جنْي المزيد من الأرباح عبر منْح الإعانات للشركات. وتُعدّ واشنطن أكبر مورّد للمعدات العسكرية لكييف، إذ قدّمت أسلحة تفوق قيمتها الـ 15.2 مليار دولا، منذ بدء الحرب. وفي هذا المجال، يقول مسؤول كبير في إحدى العواصم الأوروبية، إن إعادة تخزين بعض الأسلحة المتطوّرة قد تستغرق «سنوات»، بسبب المشاكل في سلسلة التوريد وإنتاج الرقائق، ما أثار مخاوف من أن صناعة الدفاع الأميركية يمكن أن تستفيد بشكل أكبر من هذه الحرب. ويعمل «البنتاغون» بالفعل على تطوير خريطة طريق لتسريع مبيعات السلاح، حيث يتزايد الضغط من جانب الحلفاء للرد على الطلبات المتزايدة على المعدات العسكرية. وللدلالة، يمكن الإشارة إلى التعديل الجديد المُقترح على «قانون تفويض الدفاع الوطني» لهذا العام من قِبَل السيناتور جاك ريد (ديموقراطي)، وجيم إينهوف (جمهوري)، والذي يمنح وزارة الدفاع حرية شراء كميّات ضخمة من السلاح المدفعيّ والذخائر الأخرى، باستخدام عقود متعدّدة السنوات في زمن الحرب. والأهم من ذلك، أن التعديل سيسمح لـ«البنتاغون» أيضاً بتخطّي التعاقد التنافسي للصفقات المتعلّقة بأوكرانيا (بما في ذلك عقود بمليارات الدولارات لإعادة ملء المخزونات الأميركية)، وسيتنازل عن الأحكام الأخرى التي تهدف إلى منْع صانعي الأسلحة من فرْض رسوم إضافية على دافعي الضرائب. كما ستسمح هذه الخطوة للمقاولين بإنتاج فائض كبير عن حاجة أوكرانيا. ومن الصّعب التفكير في هدفٍ وُضِع على رأس قائمة الجميع، كشراء طنّ من الذخائر للسنوات القليلة المقبلة لخُطط الولايات المتحدة التنفيذيّة ضد الصين والاستمرار في إمداد أوكرانيا. بعبارة أخرى، يستغل المشرّعون والمُتعاقدون الدفاعيون أوكرانيا للحصول على قائمة أسلحتهم. ويبدو أن ما تقدَّم يشكّل جزءاً من دفعة أكبر لاستغلال الحرب، لزيادة إنفاق «البنتاغون» على مسائل لا علاقة لها بالدفاع عن أوكرانيا. «التشريع المقترح يصرّح أيضاً بعقود 20000 صاروخ جو - جو مُتقدّم مُتوسّط المدى من طراز AIM-120، والذي لم تطلقه أوكرانيا على نطاق واسع - هذا إن أُطلِقَ». وتتضمّن الحزمة أيضاً عمليات شراء للعديد من الصواريخ الأخرى التي يبدو أنها تتجاوز قائمة رغبات كييف. وتُظهر هذه الأنواع من المقترحات بوضوح أن الولايات المتحدة تسعى إلى تحقيق مكاسب طويلة الأمد من حرب أوكرانيا.
من منظور أوروبي، يُعدّ القانون الأميركي إجراءً حمائياً


من جهتها، وفي الوقت الذي تحاول فيه تقليص اعتمادها على الطاقة الروسية، تلجأ دول الاتحاد الأوروبي إلى غاز الولايات المتحدة كبديل من ذلك الروسي، لكن السعر الذي يدفعه الأوروبيون في مقابل الحصول على هذه المادة أعلى بأربعة أضعاف من تكلفة الوقود نفسها في أميركا، ما يضحّ أرباحاً هائلة وغير متوقعة في خزينة الشركات الأميركية. وحقّقت شركة «إكسون موبيل»، مثلاً، أرباحاً قياسية في الربع الثالث، إذ بلغ دخلها الصافي 19.66 مليار دولار. وعلى المنوال نفسه، حقّقت شركة «إيرفينغ» (تكساس) إيرادات ربع سنوية بلغت 112.07 مليار دولار، أي أكثر من ضعف إيراداتها خلال الفترة نفسها من العام الماضي. أما شركة «شيفرون»، فوصلت أرباحها إلى ما قيمته 11.23 مليار دولار، وبلغت أرباح شركة «سان رامون» (كاليفورنيا) 66.64 مليار دولار من الإيرادات.
على هذه الخلفية، علت صرخة دول الاتحاد الأوروبي بالشكوى، مطالبة بإجراء مفاوضات لخفض الأسعار. وقال الرئيس الفرنسي، إيمانويل ماكرون، إن أسعار الغاز الأميركية المرتفعة ليست «وديّة»، فيما دعا وزير الاقتصاد الألماني، واشنطن إلى إبداء المزيد من «التضامن» والمساعدة في خفْض تكاليف الطاقة. كذلك، أعرب الوزراء والدبلوماسيون الأوروبيون عن إحباطهم من الطريقة التي تتجاهل فيها حكومة جو بايدن تأثير سياساتها الاقتصادية المحلية «البسيطة» على الحلفاء الأوروبيين. وعندما تناقش زعماء الاتحاد الأوروبي مع بايدن في شأن ارتفاع أسعار الغاز في الولايات المتحدة في اجتماع «مجموعة العشرين» في بالي، بدا الرئيس الأميركي غير مُدرك للقضيّة بكل بساطة! واتّفق المسؤولون والدبلوماسيون الأوروبيون الآخرون على أن الجهل الأميركي بعواقب الأزمة كان المشكلة الكبيرة.
أمّا مركز التوتر الأكبر، في الأسابيع الأخيرة، فكان «الإعانات والضرائب» الخضراء التي يقدّمها بايدن. ويمنح قانون خفض التضخّم (IRA) 369 مليار دولار من الإعانات والإعفاءات الضريبية، لتعزيز الأعمال الخضراء الأميركية. من منظور أوروبي، يُعدّ القانون الأميركي إجراءً حمائياً، إذ إنه يُشجّع الشركات على تحويل الاستثمارات من أوروبا، ويُحفّز العملاء على شراء المنتج الأميركي عندما يتعلّق الأمر بشراء سيارة كهربائية. وأدّى الخلاف المتزايد حول قانون بايدن لخفض التضخم، إلى مَخاوِف من حرب تجارية عبر الأطلسي، إذ رأى دبلوماسي من الاتحاد الأوروبي أن «قانون خفض التضخم غيّر كل شيء»، متسائلاً: «هل ما زالت واشنطن حليفتنا؟».
بالنسبة إلى بايدن، يُعدّ التشريع إنجازاً مناخياً تاريخياً. لكن الاتحاد الأوروبي يرى ذلك من زاوية مختلفة. ويقول مسؤول في وزارة الخارجية الفرنسية إن التشخيص واضح: هذه «إعانات تمييزيّة من شأنها تشويه المنافسة»، وإنّ وزير الاقتصاد الفرنسي، برونو لومير، اتّهم الولايات المتحدة بالسير على طريق الانعزالية الاقتصادية للصين. ودعا مسؤول كبير آخر، وهو وزير خارجية الاتحاد الأوروبي، جوزيف بوريل، واشنطن إلى الاستجابة للمخاوف الأوروبية: «الأميركيون - أصدقاؤنا - يتّخذون قرارات لها تأثيرها الاقتصادي علينا».
ومع بقاء شهر واحد فقط قبل أن تدخل الأحكام النهائية للقانون الأميركي حيّز التّنفيذ في الأول من كانون الثاني، فإن الحكومة في برلين صارت على اقتناع كبير بأن عليها توحيد قواها مع فرنسا ودعْمها؛ فالضغط الفرنسي من أجل سياسة صناعية خاصة بالاتحاد الأوروبي يعتمد على المزيد من الدعم. ومع استمرار أزمة أوكرانيا، تستفيد الولايات المتحدة أكثر فأكثر من خلال إبرام المزيد من العقود لبيع المزيد من الأسلحة. وارتفعت أسعار الطاقة بشكل جنوني، حيث تبيع الشركات الأميركية الغاز بأربعة أضعاف سعره، بينما يتعيّن على العائلات الأوروبية الاختيار بين: البقاء على قيد الحياة جياعاً أو ناعمين بالدّفء. جشع الولايات المتحدة لم ينته هنا، حيث إنها تسرق أيضاً الصناعات الأوروبية. وفي الوقت نفسه، ستؤدّي عودة الجمهوريين إلى الأغلبيّة في مجلس النواب إلى دعم أقلّ لأوكرانيا، ولن يُرحّب أحدٌ في هذا الجوّ المسموم بين الحلفاء الغربيين أكثر من بوتين. وعليه، قد يتساءل المرء عمّا إذا كان هناك في الأصل تحالف غربي.