في الدورة الثانية من الانتخابات الرئاسية البيروفية التي أُجريت في 6 حزيران 2021، والتي بلغت نسبة المشاركة فيها 74.57%، حصل بيدرو كاستيو، مرشّح حزب «بيرو الحرة» على %50.13، فيما حصلت مُنافِسته كيكو فوجيموري، مرشّحة حزب «القوّة الشعبية»، على 49.87%، أي أن كاستيو تَقدّم على الأخيرة بـ %0.25 فقط. أمّا انتخابات الكونغرس - المكوَّن من 130 مقعداً والذي يتطلّب تشكيلُ أغلبية فيه أن يحوز أحد الأحزاب أو التحالفات 60 مقعداً -، والتي عُقدت في 11 نيسان 2021 بالتزامن مع الدورة الأولى للانتخابات الرئاسية، فقد أفضت إلى تقسيم الكونغرس بين 10 أحزاب. أدّى هذا الوضع، بكاستيو، المنتصِر في سباق الرئاسة، إلى أن يتعامل مع الهيئة التشريعية بشكل حازم، واضطرّه إلى أن يقيم تحالفات استراتيجية لتمرير التشريعات والتخفّف من عبء الانقسام، فيما أسهمت الانتخابات البرلمانية، التي لم تمنح أيّاً من الأحزاب أو التحالفات الغالبية (حصل «بيرو الحرة» بقيادة فلاديمير سيرون روخاس على 37 مقعداً، مقابل 24 مقعداً لـ»القوة الشعبية» بقيادة فوجيموري)، في تمكين الممثّلين السياسيين للشركات الكبرى وقوى اليمين المتطرّف المتآمر ضدّ السلطة التنفيذية.
أقطاب الصراع
بيدرو كاستيو، البالغ من العمر 52 عاماً، هو سياسي مبتدئ، أمضى حوالي 26 عاماً من حياته يعمل في التدريس في قرية بونيا في منطقة كاخاماركا الإنديزية. وهو مناضل نقابي كبير قاد إضرابات المعلّمين على مستوى البلاد في آب 2017، والتي انتهت بانتصار جزئي مع العديد من التنازلات من قِبل حكومة بيدرو بابلو كوتشينسكي الليبرالية الجديدة، وهذا بالضبط ما أكْسبه شهرة سياسية. انضمّ كاستيو، في 2020، إلى الحزب الماركسي اللينيني المارياتيغوي (نسبة إلى خوسيه كارلوس مارياتيغوى)، «بيرو الحرة»، ليرشّحه الأخير في الانتخابات الرئاسية بسبب شعبيّته الواسعة.
وعد كاستيو بإعادة كتابة الدستور، وإعادة توزيع الثروة من خلال منح الدولة سيطرة أكبر على الأسواق والموارد الطبيعية. كما وعد بإنقاذ الموارد الاستراتيجية لبيرو، وإعادة توجيه الثروة المعدنية، بعيداً عن شركات التعدين ورؤوس الأموال الخاصة والأجنبية للمساعدة في التخفيف من حدّة الفقر المنتشر. وتعهّد، أيضاً، بأن يكافح من أجل الوفاء بتلك الوعود، وسط ارتفاع التضخّم وتعمّق اللامساواة وازدياد الفقر من جهة، وافتقاره إلى الخبرة السياسية وهيمنة المعارضة اليمينية على الكونغرس من جهة أخرى.
أمّا كيكو فوجيموري، البالغة من العمر 47 عاماً، فهي الابنة والوريثة السياسية للرئيس البيروفي السابق، ألبرتو فوجيموري، الذي حَكم بيرو بين عامَي 1990 و2000، حيث تركّزت جهود الحكومة على القضاء على «حرب الشعب» طويلة الأمد التي شنّها الحزب الشيوعي البيروفي (الدرب المضيء). أدينَ فوجيموري في 2009 بارتكاب جرائم ضدّ حقوق الإنسان، وحُكم عليه بالسجن لمدّة 25 عاماً.
ما بين المتنافسَين، من المهمّ ملاحظة أن معظم الأصوات التي ذهبت لمصلحة كاستيو جاءت من المقاطعات التي يغلب على سكّان مُدُنها وقُراها الطابع الفلّاحي والعمالي، وطابع الفئات الدنيا والوسطى من الطبقة البورجوازية. أمّا في ليما العاصمة (على سبيل المثال لا الحصر)، التي يغلب على سكّانها طابع الفئة العليا من الطبقة البورجوازية، والطبقة الكمبرادورية والأوليغارشية، فبلغ الفارق في عدد الأصوات بين كاستيلو وفوجيموري، 1,818,536 لمصلحة الأخيرة.

انقلاب وانقلاب مضادّ
حاول الكونغرس البيروفي، خلال الشهور الماضية، الانقلاب على كاستيو ثلاث مرّات، لكنه فشل في المحاولتَين الأولى والثانية كونه لم يستطع الحصول على الأصوات الضرورية لبدء العملية، والتي يبلغ عددها 87. ومع ذلك سعت المعارضة، أثناء محاولتها الثالثة إلى عزل الرئيس، لاتّهامه بـ»خيانة الوطن الأمّ»، بناءً على تصريح كاستيو بأن حكومته يمكن أن تساعد بوليفيا غير الساحلية على الوصول إلى المحيط الهادئ.
والواقع أن الأزمة السياسية في بيرو عميقة للغاية، وهي بدأت – إذا استُثنيت تاريخيّتها ولا سيما «حرب الشعب» – في اليوم الأوّل الذي شغل فيه كاستيو الرئاسة. ولعلّ ممّا يدلّ على ذلك أن كاستيو قام في أوّل 13 شهراً له في منصبه، بتعيين 68 وزيراً في 19 وزارة، أي ما يعادل 3.5 وزراء تقريباً لكلّ وزارة. أمّا رئيس الوزراء الأخير الذي عيّنه الرئيس، فرأى نوّاب المعارضة أن تعيينه كان جزءاً من مناورة لحلّ المجلس التشريعي، بعدما أخذ كاستيو على الكونغرس إقالته رئيس وزرائه السابق، على الرغم من عدم إجراء تصويت على الإقالة. في الفصل الأخير من «الحرب»، بدت على كاستيو ملامح الخوف واضحةً أثناء قراءته الخطاب الأخير الذي وَجّهه للأمة؛ فيداه اللتان أمسكتا ورقة الخطاب كانتا ترتجفان، بينما هو يعلن حلّ الكونغرس وتشكيل حكومة طوارئ وفرْض حظر تجول. وبالرغم من ذلك، استطاع الكونغرس، سريعاً، عزل الرئيس الذي لم تتخطّ فترة حُكمه 18 شهراً، بأغلبية 100 صوت وصوت، مقابل 6 أصوات، بعد أقلّ من ساعتين من ظهور كاستيو التلفزيوني الدرامي.
بيرو تعاني أزمة سياسية واجتماعية متفاقمة منذ تسعينيات القرن المنصرم


وبينما أعلن وزير الخارجية المكسيكي، مارسيلو إبرارد، أن كاستيو طلب اللجوء، انتقد الرئيس المكسيكي، لوبيز أوبرادور، النُخب البيروفية، داعياً إلى حماية حقوق الرئيس المعزول. وقال أوبرادور إنه أمر السفير بابلو مونروي بـ»فتح باب السفارة» لكاستيلو. لكن لم يحالف الحظّ الأخير، فقد أُلقي القبض عليه في سيّارته التي كانت عالقة في حركة المرور في ليما العاصمة، أثناء تَوجّهه نحو السفارة المكسيكية. وعلى الفور، نَشر موقع إلكتروني تابع للشرطة البيروفية صورة لكاستيو وهو مُحتجَز، مكتوباً عليها «الرئيس السابق»، قبل أن يَظهر الرجل أمام المحكمة لأوّل مرّة يوم الخميس، حيث بدت عليه الكآبة بعدما أمضى ليلته الأولى في الزنزانة، ورفَض القضاة طلب الاستدعاء الذي تَقدّم به محاميه، وأمروا بإبقائه رهْن الاعتقال التمهيدي لمدّة أسبوع آخر، علماً أن عقوبة التهم المُوجَّهة إليه تصل إلى السجن لمدّة تتراوح بين 10 و20 عاماً.

أوّل رئيسة للبيرو
درست دينا إرسيليا بولوارت زيغارا، البالغة من العمر 60 عاماً، القانون، وتخرَّجت من جامعة سان مارتين دي بوريس الخاصة. شغلت بولوارت منصب نائب الرئيس كاستيو، ومنصب وزيرة التنمية والاندماج الاجتماعي، وأصبحت رئيسة بالصدفة بعد عزل الكونغرس سلفها. بولوارت، سادس رئيس للبلاد منذ بداية عام 2018، حاولت الترشّح لمنصب عمدة مقاطعة سوركويلو في ليما قبل 4 سنوات، كما ترشّحت عام 2020 لعضويّة الكونغرس عن حزب «بيرو الحرة»، لكنها لم تحقّق الفوز، فضلاً عن أنها تختلف اختلافاً كبيراً عن كيكو فوجيموري التي نشأت في أعلى الدوائر السياسية في ليما.
بدا، منذ الأشهر الأولى لتولّي كاستيو مقاليد السلطة، أن بينه وبين نائبته، خلافاً من نوعٍ ما، وهو ما اتّضح تماماً عندما استقالت من منصبها الوزاري منذ أسبوعَين، بسبب خيبة الأمل التي أصابتها عندما اختار كاستيو آخر رئيس وزراء له. فضلاً عن ذلك، غَرَّدَت بولوارت على «تويتر»، واصفةً حركة الرئيس بأنها «انقلاب يعمّق الأزمة السياسية». وفي أوّل خطاب لها كرئيسة، دعت إلى «هدنة سياسية لتنصيب حكومة وحدة وطنية»، وقالت: «مهمّتي الأولى هي محاربة الفساد بجميع أشكاله». وفي هذا الصدد، قال المتحدث باسم وزارة الخارجية الأميركية، في بيان: «نشيد بالمؤسّسات والسلطات المدنية في البيرو لضمان الاستقرار الديموقراطي. سنواصل دعم بيرو في ظلّ حكومة الوحدة التي تعهّدت الرئيسة بولوارت بتشكيلها»، مع الإشارة إلى أن بولوارت ليس لديها حزب في الكونغرس، ما يعرّضها لخطر الإطاحة قبل انتهاء ولايتها عام 2026.

الشارع البيروفي يرفض الانقلاب
يحتشد الآلاف من المتظاهرين بالقرب من الكونغرس – منذ عزل الرئيس – للمطالبة بالإفراج عن كاستيو والدعوة إلى انتخابات جديدة. من هؤلاء المحتجّين، عديدون سافروا مسافة 8 ساعات بالحافلات من المناطق الزراعية النائية، حيث حظي كاستيو بأقوى دعم، وذلك من أجل الوصول إلى ليما العاصمة، والتعبير عن رفضهم للانقلاب على الرئيس المنتخَب ديموقراطياً. في المقابل، نصبت قوات الشرطة حواجز لإغلاق الشوارع المحيطة بالقصر الحكومي ومنع المتظاهرين من التقدّم، وعندما حاول هؤلاء إزالتها، قوبلوا بالغاز المسيل للدموع والرصاص المطاطيّ. أيضاً، هدّد المحتجّون بوقف العمل في مناجم مختلفة، منها على سبيل المثال لا الحصر منجم النحاس التابع لشركة «جلينكور» متعدّدة الجنسيات، فيما أعلنت النقابات والمنظّمات الاجتماعية في مدينة أريكويبا – ثاني أكبر مدينة في البلاد من حيث عدد السكّان – استمرار الاحتجاجات، وأكدت بعض اتحادات العمال أنها ستنضمّ إلى إضراب وطني لمدّة 24 ساعة في 15 كانون الأوّل.

تاريخ من العنف: هل ينفجر مرّة أخرى؟
لبيرو تاريخ طويل من العنف، يبدأ قبل ثمانينيات القرن المنصرم، وحتى قبل أن يبدأ الحزب الشيوعي البيروفي (الدرب المضيء)، مُسلّحاً بالماركسية اللينينية الماوية، باستراتيجيته لـ»حرب الشعب» طويلة الأمد عام 1980، والتي انتهت بعد سنوات قليلة من اعتقال مؤسِّس وزعيم الحزب، أبيمال غوزمان، الشهير بالرئيس غونزالو عام 1992. يشهد هذا التاريخ على عشرات المذابح التي ارتكبها الجيش البيروفي – بدعمٍ وسلاحٍ أميركي – في حق الفلّاحين الفقراء والسكّان الأصليين، وراح ضحيّتها آلافٌ لم يُعثر على جثث البعض منهم حتى الآن.
«السلطة السياسية تنبع من فوّهة البندقية». هكذا عبّر ماو تسي تونغ عن ضرورة البندقية في التحوّلات الاجتماعية، أي في الثورة. أثبت الكفاح المُسلّح للجماهير المُضطهدة – على عكس الاشتراكية الديموقراطية التي تفشل باستمرار منذ أوّل تجربة لها في تشيلي مع سلفادور أليندي الذي اغتيل بعد حوالي ثلاثة أعوام من تحقيقه الفوز بالانتخابات عام 1970 – صِحّته على مدار تاريخ الحركة الاشتراكية. هوغو تشافيز كان واعياً لهذه المسألة، ولعلّ السرّ في استمرار الثورة البوليفارية في فنزويلا هو تسليح الشعب الفنزويلي، بعيداً عن الجيش الوطني، حيث جرى تأسيس أشباه كوميونات في القرى وعدد من المدن، وتشكيل لجان شعبية مُسلّحة. هذا ما يقوم به الثوريون الآن في بوليفيا منذ الانقلاب اليميني على إيفو موراليس عام 2019. أمّا في بيرو، فقد أثبتت الحرب الشعبية نجاحاً باهراً، حتى إن الجناح المسلّح للحزب الشيوعي كان قد وَصَل إلى حدود ليما، معقل البورجوازية الكبيرة والكمبرادورية، ولو لم يتمّ إلقاء القبض على الرئيس غونزالو من مخبئه في ليما، لكانت الثورة مستمرّة ومشتعلة حتى اليوم.
سيرورة العنف هذه تدفع إلى التساؤل: هل يمكن أن تعود «حرب الشعب» في بيرو مرّة أخرى؟ وهل يمكن أن تتكرّر تجربة التسليح الشعبي التي تجري في فنزويلا وبوليفيا في بيرو؟ لا إجابة واضحة إلى الآن، لكن الأكيد أن بيرو تعاني أزمة سياسية واجتماعية متفاقمة منذ تسعينيات القرن المنصرم، وأنه على رغم شعار الحملة الانتخابية لكاستيو: «لا فقراء في بلدٍ غنيّ»، فإنه يبدو أنه ما من شيء يستطيع وقف طوفان الاستغلال الذي تتعرّض له الطبقات الشعبية البيروفية من قِبل الطبقة الكمبرادورية والأوليغارشية البيروفية، غير صحوة شعبية مثلما حدث في فنزويلا مع هوغو تشافيز، وأخيراً في بوليفيا.