ربّما يكون رئيس بلدية إسطنبول، أكرم إمام أوغلو، أحدَ أسعد الأشخاص في تركيا اليوم؛ ففي الـ 31 من آذار 2019، أُجريت الانتخابات البلدية في تركيا، وتَنافس على مقعد بلدية إسطنبول، في حينه، مرشَّح المعارضة ممثَّلاً بعضو «حزب الشعب الجمهوري»، إمام أوغلو، ومرشّح السلطة ممثَّلاً برئيس الوزراء السابق، بن علي يلديريم. وقتها، أظهرت النتائج تَقدُّم مرشّح المعارضة بحوالي 30 ألف صوت، غير أن حزب «العدالة والتنمية» الحاكم لم «يبتلع» ما جرى، وقرّر الطعن في النتيجة فوراً، فرضخت «اللجنة العليا للانتخابات»، وأُعيد فرز الأصوات، لكن الفائز ظلّ إمام أوغلو بفارق 13 ألف صوت. مع هذا، لم يحتمل الرئيس رجب طيب إردوغان خسارة أهمّ بلدية في تركيا، فتقدَّم حزبه بطعن جديد، مطالباً هذه المرّة بإبطال الانتخابات برمّتها، فكان له ما أراد؛ وتَقرَّرت جولة الإعادة في الـ 23 من حزيران 2019، لتجيء النتيجة مدويّة: انتصار إمام أوغلو، وبفارق بلغ 880 ألف صوت. ولا بدّ، في المناسبة، من استذكار دعوة إردوغان الناخبين عشية الانتخابات البلدية، إلى الاختيار بين «عبد الفتاح السيسي، أو بن علي يلديريم». إلى تلك الدرجة، كانت انتخابات إسطنبول مهمّة بالنسبة إلى الرئيس، ربّما استناداً إلى القول الشائع إن «مَن يسيطر على إسطنبول، يسيطر على تركيا».ومع نَشْر صور مصافحة إردوغان - السيسي في الدوحة، تذكّر الأتراك مفارقات رئيسهم على امتداد فترة تبوّؤ الرئيس المصري الحالي السلطة، وتساءلوا: «كيف تحوَّل السيسي من انقلابي وفرعون إلى صديق». على أن العداوات والصداقات ليست غريبة على العلاقات بين الدول والزعماء، فلا شيء دائم في السياسة. لكن هذا لا يكفي ليقال إن الرئيس التركي يتحلّى ببراغماتية، بل إن مزاجه يُعدّ مقياساً رئيسيّاً من مقاييس حركته السياسية. فالعداء للسيسي، على امتداد تسع سنوات، لا يمكن شطبه الآن بشحطة قلم المصافحة، بعدما انعكس أضراراً جسيمة على المصالح الخارجية لتركيا، ولا سيما في شرق المتوسط، والعلاقات مع دول الخليج. ومن هنا، لا يمكن المصافحة أن تمرّ هكذا في تركيا، على قاعدة «عفا الله عمَّا مضى». وفي هذه المناسبة، أعادت الصحافة التركية المعارِضة التذكير بما كان يقوله قادة حزب «العدالة والتنمية» ومسؤولوه، في الأعوام الماضية:
رئيس بلدية أنقرة، مليح غوكتشيك: «فَلْيرحل السيسي، نريد الديموقراطية في مصر»؛ النائب السابق عن «العدالة والتنمية»، ياسين آقطاي: «بأمر السيسي، اعتبرت دار الإفتاء في مصر عام 1453، عام احتلال وظلم وليس عام فتح». وزير العدل، بكير بوزداغ: «لماذا يا اتحاد أوروبي لا تقول شيئاً عن السيسي، قاتل الحقوق والقانون»؛ نائب رئيس «العدالة والتنمية»، عمر تشيليك: «الذين يتّهمون إردوغان بالدكتاتورية، اتهموا سابقاً أتاتورك وأوزال بذلك، وهم أنفسهم الذين يزورون السيسي الآن»؛ إردوغان ( 2019): «يريدون أن أتصالح مع السيسي. أبداً لن أقبل أبداً. لا يمكن أن ألتقي بشخص سجن مرسي (ورفاقه) الذي نال 52% من أصوات الشعب»؛ نائب «العدالة والتنمية» عن إزمير، ألباي أوزالان: «هم في سوريا مع الأسد، وفي مصر مع السيسي، وفي ليبيا مع حفتر. المعارضة لا تقوم بعملها، بل تعتدي على المصالح التركية».
إردوغان في عام 2019: «يريدون أن أتصالح مع السيسي أبداً لن أقبل أبداً»


هكذا، وبطلبٍ من تميم، يقول الكاتب المعروف مراد يتكين، «وافق إردوغان على مصالحة «القاتل والانقلابي»، عبد الفتاح السيسي؛ وبطلبٍ من تميم نَسي جريمة جمال خاشقجي وتصالَح مع محمد بن سلمان. ثم نَسي إردوغان محاولة الانقلاب عام 2016، وتصالَح مع محمد بن زايد»، وهو نفسه الذي رفض، في عام 2019، دعوة الرئيس الأميركي السابق، دونالد ترامب، على العشاء، لأن السيسي كان على الطاولة نفسها. ويقول يتكين: «إذا كان إردوغان قد تصالح مع السيسي، فلماذا يرفض لقاء الأسد إلّا بعد الانتخابات الرئاسية؟ والجواب هو أن الأسد «علوي»، وهذا سيثير غضب قواعد حزبه والجماعات والطرق الإسلامية»، مذكّراً بتغريدة كمال كيليتشدار أوغلو: «لقد صرختم رابعة بالأصابع الأربعة، والآن تتصالحون مع السيسي. فلماذا لا تتصالحون مع الأسد؟». ويتساءل يتكين: «هل تعني المصافحة أن إردوغان لن يرفع من جديد شعار رابعة؟»، ليجيب: «لا بل سيرفعها من جديد، لأن الناطق باسم الإخوان المسلمين في مصر قال إنهم مع المصالحة التركية - المصرية، ولكنّهم سيواصلون نضالهم ضدّ السيسي». وعن مصالحة إردوغان - الأسد، يقول الكاتب إنها «تحتاج إلى تميم آخر. وسيكون فلاديمير بوتين على الأرجح هو الذي سيطلب من إردوغان والأسد التصافح».
وفي ظلّ الدعم الخجول الذي أبدته قواعد الحزب لإردوغان، وقول صحيفة «يني شفق» إنه ليس من «عداوات أبدية» بين الدول، وقول عبد القادر سيلفي في «حرييات» إن «المصافحة تصبّ في مصلحة البلدين»، فإن العديد من الكتّاب الإسلاميين انتقدوا خطوة التلاقي مع السيسي؛ فتهكّم الكاتب الأصولي المعروف، عبد الرحمن ديليباك، متسائلاً عمَّا إذا كنّا سنشهد بعد ذلك، «مباريات صداقة ثلاثية بين تركيا ومصر وسوريا؟». وانسحبت الانتقادات الشرسة على المعارضين، إذ يرى رئيس «الحزب الديموقراطي»، غولتكين أويصال، أن «شرش الحياء طقّ، وتحوّل إلى شرش مال»، فيما يصف رئيس «حزب المستقبل»، أحمد داود أوغلو، إردوغان باتباع «سياسة بوجهَين، وبلا مبادئ»، ويذكّر نائب إزمير، تونجاي أوزكان، بقول وزير الخارجية، مولود تشاووش أوغلو، في عام 2013: «حزب الشعب الجمهوري يدعم الانقلاب في مصر وهو صديق وثيق للأسد. لن نندهش اليوم إذا ما زار هؤلاء السيسي والانقلابيين في مصر». ويعلق أوزكان، قائلاً: «الآن ماذا سيحدث يا حبيب الانقلاب، يا مولود تشاووش أوغلو؟». أما نائب رئيس «الشعب الجمهوري»، فائق أوزتراك، فيلفت إلى أنه «في السياسة يجبرون الرجل على شرب الماء من الإبريق الذي لوّثه». أما الأمين العام لـ«الحزب الجيّد»، أوغور بويراز، فيذكّر: «كان إردوغان يقول: يوم الأحد، هل ستصوّتون للسيسي أم لبن علي يلديريم؟ اليوم، صوَّت إردوغان للسيسي، فماذا سيحلّ ببن علي يلديريم؟».
من جهته، يتوقّف إبراهيم كيراس، في صحيفة «قرار»، عند التطوّرات الأخيرة باعتبار أنه «ليس بإمكان السياسة الخارجية أن تكون أرضيّة للقيام بمناورات مفاجئة، كما لو كنتَ تَعبر الطريق السريع... التظاهر بترتيب صداقات وجعل السياسة الخارجية مقبّلات للسياسة الداخلية، يعني تبديد المصالح الوطنية وبثمن بخس. ولسوء الحظ، كان هذا الفهم يهيمن على إدارة الدولة لفترة طويلة، ويسبّب مشاكل خطيرة. وإردوغان، في هذا الجانب، كان نموذجاً لهذه السياسات. وكان نموذجاً لعدم تطبيق أقوال أجدادنا بعدم التحدّث بكلام كبير يصعب التراجع عنه... لقد استخدم إردوغان المشاعر الوطنية لتحريك القاعدة من دون النظر إلى ما سيلحقه من أضرار وطنية. إن اعتماد السياسي خطاباً شعبوياً في السياسة الخارجية يُلحق الضرر به، وبحاضر 85 مليوناً وبمستقبلهم».