وكان سوناك، الثريّ، خرّيج جامعتَي أكسفورد (المملكة المتحدة) وستانفورد (الولايات المتحدة)، قد عمل في بنك استثماري عالمي، قبل أن يخوض غمار السياسة ويُنتخَب عن حزب «المحافظين» عضواً في مجلس العموم منذ سبع سنوات. وخدم سوناك في حكومة جونسون وزيراً للمالية، وكان بمثابة الرجل الثاني في تلك الحكومة. ويقدّر خبراء ثروته الشخصية بعدّة مئات من ملايين الجنيهات الإسترلينيّة، ناهيك عن ثروة زوجته الطائلة. وسوناك متزوّج أكشاتا مورثي، ابنة نارايانا مورثي، مؤسّس شركة تكنولوجيا المعلومات «إنفوسيستميز» الضخمة، وقد اعترف في وقت سابق بأن زوجته استفادت من وضعها كغيْر مقيمة دائمة في البلاد لتجنُّب دفْع الضرائب، كما أنه كان دائماً جزءاً من سلسلة الفضائح التي أطاحت جونسون. في الاقتصاد، ينتمي سوناك إلى مدرسة يمينية كلاسيكية، لكنه يعدّ متحفظاً بالنسبة لعُتاة النيوليبراليين في الحزب الحاكم، والذين يريدون فرض شكل متطرّف من حرّية السوق، وخصخصة ما تبقّى من القطاع العام، وتقليص حجم أجهزة الدولة إلى الحدّ الأدنى الممكن. ويدعم سوناك، بشكل عام، هذه التوجّهات، لكنه يفضّل اتّخاذ خطوات متدرّجة، وغير مستفزّة.
يسود مناخ من التوتّر أوساط «المحافظين» بسبب انهيار التأييد الشعبي لهم إلى أقلّ من 20 في المئة
وتَمثّل أوّل قرار اتّخذه سوناك بعد تكليفه بتشكيل الحكومة، في تثبيت جيريمي هانت، وزير مالية آخر أسبوع من عمر حكومة تراس المستقيلة، في منصبه. وكان هانت قد أسقط معظم السياسات الاقتصادية التي تبنّتها الرئيسة السابقة، وعمل لعدّة أيام على إعداد ميزانية موجَزة جديدة، تتضمّن خططاً لتغطية عجز في الموازنة العامة يُقدَّر بـ40 مليار جنيه على الأقلّ. ويأمل «المحافظون» في أن ينجح ثنائي سوناك - هانت في طمأنة الأسواق، وبالتالي خفْض تكلفة الاقتراض السيادي للدولة البريطانية، والتي زادت بعد إعلان حكومة تراس تكلفة اقتراض تفوق تلك الخاصّة بدول شبه مفلسة مِن مِثل إيطاليا واليونان، إلى جانب ارتفاع تكلفة الرهون العقارية في المملكة إلى مستويات قياسية، وتراجُع قيمة الجنيه الإسترليني أمام الدولار الأميركي إلى أدنى أرقامها تاريخياً.
ويُعتقد، الآن، على نطاق واسع، بأن هانت سيقترح مزيجاً من الزيادات الضريبية والقيود الصارمة على الإنفاق العام، كجزء من برنامج تقشّفي مؤلم مدّته خمس سنوات، سعياً لاستعادة السيطرة على الديون المتراكمة. وسيعني ذلك، بالضرورة، ضغوطاً مضاعفة على الطبقة العاملة التي انخفض مستوى أجورها إلى أقلّ ممّا كان عليه قبل خمسين عاماً، بسبب التضخمّ والارتفاع الجنوني للأسعار منذ بدء الحصار الاقتصادي الذي تقوده الولايات المتحدة - وتدعمه بريطانيا - ضدّ روسيا. وتسيطر حفنة من تحالف الأثرياء البرجوازيين والأرستقراطيين على موارد المملكة، بينما يعيش أكثر من ربع السكّان دون خط الفقر، ولا يحصلون سوى على وجبة واحدة في اليوم. وقد ساءت أوضاع أكثريّة البريطانيين مذْ شرع «المحافظون» في تطبيق سياسات تقشّف قاس إثر تَفجّر الأزمة المالية العالمية نهاية العقد الأوّل من القرن الحالي، فيما يبدو أكيداً اليوم أن مزيجاً من تمديد سياسات التقشّف تلك، تزامناً مع الارتفاعات الفلَكية في أسعار الغاز والكهرباء والمحروقات، سيدفع بقطاعات إضافية من منسوبي أدنى الطبقة الوسطى إلى حدّ الفقر، وسيُعمّق آلام الطبقات العاملة، والعاطلين عن العمل، والمهمّشين.
ويقول خبراء إن عبور الحكومة لاختبار الميزانيّة الموجَزة، قد يشتري لسوناك بعض الوقت في السلطة، لكنه لن يعفيه من مواجهة استحقاقات أخطر لا يمكن تأجيلها، خصوصاً في ظلّ تَعرّض البلاد لموجة ركود اقتصادي، وتقلُّص في مستويات النموّ، وتضخّم مرتفع، وتراجع في الخدمات العامة، وإضرابات عمّالية، وارتفاع في تكاليف الطاقة، وحتى انقطاعات محتمَلة للكهرباء في العام الجديد. وفي حال اعتُمدت خطط هانت التقشّفية، فإن ظواهر التململ الشعبي والفوضى وانتشار الجريمة، قد تَخرج عن السيطرة أيضاً. كما أن هنالك عدّة ملفات مؤرّقة في انتظار الرئيس الجديد، ومنها الحرب في أوكرانيا، والعلاقة بالاتحاد الأوروبي - لا سيّما ملفّ بروتوكول التجارة الخاص بإيرلندا الشمالية -، والهجرة من بلاد الجنوب، كما توجّه الحكومة الإقليمية في إسكتلندا إلى إجراء استفتاء شعبي جديد على الاستقلال. ويرث سوناك، كذلك، علاقات غير مثالية مع فرنسا، ومخاوف من تردّي الأوضاع السياسية والأمنية في إقليم إيرلندا الشمالية المتنازَع عليه بين لندن ودبلن.
ويُعدّ سوناك من ضمن فريق «الصقور» بشأن العلاقة مع الاتحاد الأوروبي، وهو يَعتبر الصين «تهديداً هائلاً لأمن بريطانيا القومي»، وكان تعهّد لزملائه في الحزب ببناء «تحالف جديد على غرار حلف شمال الأطلسي» ضدّ ما سمّاه «طموحات بكين التوسّعية»، فيما يُعتبر أيضاً من أصدقاء إسرائيل المخلصين داخل نادي النُخبة البريطانية. لكن، على رغم اتّساع دائرة تأييده بين نواب الحزب الحاكم في مجلس العموم، يظلّ شخصية مثيرة للجدل، ومغضوباً عليه من قِبَل أتباع تراس وجونسون، الذي يُعتبر مسؤولاً عن إسقاطه بسبب تقديمه استقالته. ولذا، قد يلجأ هؤلاء إلى لُعبة التآمر المعهودة للتخلّص منه، إن هم أحسّوا باهتزاز الحكومة في أيّ وقت. ويسود مناخ من التوتّر أوساط «المحافظين» بسبب انهيار التأييد الشعبي لهم إلى أقلّ من 20 في المئة بحسب استطلاعات الرأي، ما يهدّدهم بفقدان السلطة في الانتخابات العامة التالية – بعد سنتَين - لمصلحة حزب «العمل» المعارض. ويخشى دهاقنة «المحافظين» من أن يكون سوناك، بالفعل، آخر أوراقهم لمواجهة الأوضاع الاقتصادية الكارثية التي خلّفتها سياساتهم في السلطة طوال أكثر من عقد، ولذا، فإن سقوطه لأيّ سبب قد يضعهم في مناخ ضاغط للدعوة إلى انتخابات استثنائية تطيحهم مبكراً. لكن السيطرة على نواب الحزب في مجلس العموم تكاد تكون مفقودة، فيما لا يُستبعد أن يحاول جونسون وأنصاره تصيّد هفوات الرئيس الجديد، ودفعه من حافة السفينة أنّى تسنّى لهم ذلك.