ليست الشراكة الروسية - الصينية «بلا حدود»، كما وصّفها رئيسا البلدَين فلاديمير بوتين، وشي جين بينغ، قبل قليل من انطلاقة الحرب في أوكرانيا... حربٌ جرّت معها تبعات لم تقتصر على علاقات روسيا مع الغرب الذي قام هو بتحديد سقفها وتالياً مداها وأهدافها، بل انسحبت أيضاً على علاقات موسكو مع بكين التي لا يَظهر أنها في وارد التخلّي - بعد - عن نهجها الحَذِر إزاء الصراع الروسي - الغربي، والذي تحافظ من خلاله على مساحةٍ تتيح لها تجنُّب تداعيات أيّ هزيمة محتملة لروسيا. هذا ما يخلص إليه معظم المحلّلين الغربيين، الذين يعتقدون أن حاجة روسيا إلى الصين، ستمنح هذه الأخيرة اليد العليا في علاقة غير متكافئة، وإنْ أقّروا أنهما تجتمعان على هدف مشترك كبير: تجاوُز «حقبة الهيمنة» وبناء عالم متعدّد الأقطاب، بعبارة الرئيس الروسي، فلاديمير بوتين؛ وهما محدّدان شكّلا، على مدى سنوات، منطلق الشراكة الروسية - الصينية على الساحة الدولية، والتي تعزّزت في ظلّ انتهاج موسكو استراتيجية «التوجّه شرقاً» ردّاً على محاولات الغرب عزلها والآن إضعافها وربّما تفكيكها إذا كان في مستطاعه. وإذا كانت كلمات بوتين تَحمِل إشارة واضحة إلى مستوى الرهان الروسي على الصين في مواجهة التحدّيات الماثلة أمام بلاده، فهو يعلم أن «الشريكة» ستولِي، في نهاية المطاف، «أهميّة لمصالحها الخاصة على أيّ شيء آخر»، بحسب القراءات الغربية.على أن الاهتمام الصيني بمسار المواجهة القائمة لا ينبع فقط من القلق من هزيمة حليفٍ وثيق كروسيا، بل يرجع - أولاً وأساساً - إلى أن نتائج المواجهة ستختبر قوّة الغرب في مقاومة مساعي موسكو وبكين لإعادة تشكيل النظام العالمي على قواعد جديدة قائمة على التعدّدية القطبية. أما فشل روسيا أو نجاحها في حسْم الحرب لمصلحتها، فسيعطي هو الآخر مؤشّراً إلى مدى قدرة الصين على استنساخ التجربة الروسية لإعادة ضمّ تايوان؛ إذ إن أحد الدوافع الرئيسة للانخراط الأميركي في أوكرانيا، هو ردع الصين عن استخدام القوّة لتغيير الوضع القانوني لتايوان. ولعلّ أفضل مَن عبّر عن هذا التوجّه، مستشار الأمن القومي الأميركي، جايك سوليفان، في حواره مع جيفري غولدبرغ، لمجلّة «أتلانتك». إذ قال، ردّاً على سؤال حول ما إذا كان انتصار الغرب في أوكرانيا، سيعيد حسابات الصين إزاء غزو تايوان، إن «أحد أهدافنا في أوكرانيا يجب أن يكون إظهار القوّة والمرونة وقوّة البقاء والدهاء والقدرة، لأن هذا سيكون له بعض التأثير في قدرتنا على ردع الآخرين بشكل فعّال في أماكن أخرى».
ظلّت بكين، حتى الآن، حذرة حيال حجم «الدعم» الذي يمكن أن توفّره لموسكو. لكن على أيّ حال، لم يعجب «سلوك» الصين، الجانب الأميركي الذي حذّر من تبعات خرق بكين للعقوبات الغربية ضدّ موسكو، والتي ستُقابَل بأخرى ضدّها، داعياً إيّاها، في الوقت ذاته، إلى دفع بوتين إلى «الالتزام بالمبادئ والقواعد الدولية». لكن الرئيس الروسي أشار، من جهته، مباشرة إلى مخاوف الصين خلال قمّة «منظمة شنغهاي للتعاون»، التي عُقدت في سمرقند الشهر الماضي، حين قال: «نحن نقدّر عالياً الموقف المتوازن لأصدقائنا الصينيين في ما يتعلّق بالأزمة الأوكرانية... نحن نتفهّم أسئلتكم ومخاوفكم في هذا الصدد». وعلى رغم توافُق البلدين على التوجّهات الأساسية في السياسة الدولية، وجدت بكين نفسها أمام خيارات صعبة مع بدء الحرب، إذ يُشار إلى أنها كانت تعوّل على تحقيق موسكو نصراً سريعاً يقلّص تبعات هذه الحرب، ويريحها من تبنّي مواقف حاسمة. لكنّها، مع هذا، عادت لتؤكد أن التعاون مع موسكو «ليست له حدود»، فيما هاجم سفيرها لدى روسيا، تشانغ هانهوي، الولايات المتحدة أخيراً باعتبارها تؤجّج الصراع في أوكرانيا، قائلاً: «بصفتها البادئ والمحرّض الرئيس للأزمة الأوكرانية، تُواصل واشنطن - بينما تفرض عقوبات شاملة غير مسبوقة على روسيا - إمداد أوكرانيا بالسلاح والمعدّات العسكرية... هدفهم النهائي هو استنفاد وسحق روسيا بحرب طويلة الأمد وبهراوة العقوبات».
يَفترض البعض أن حرب روسيا في أوكرانيا ستوقف مسار تعميق العلاقات الروسية - الصينية


يشير بعض المحلّلين إلى ما أصبحت عليه العلاقات الروسية - الصينية. قد يكون بوتين «مسكوناً بالأحلام الإمبريالية الجديدة لمكانة روسيا في أوروبا، لكنّه يترأس حالةً منحت بكين باطّراد مزيداً من النفوذ على موسكو. وبعيداً من أيّام الحرب الباردة، حين كان الكرملين يَنظر إلى الصين الشيوعية باعتبارها ابن العمّ الأفقر، فإن روسيا - المعزولة والضعيفة - تنزلق بلا هوادة إلى دور الشريك الأصغر للعملاق الآسيوي». في مقالته المنشورة في مجلة «فورين أفيرز»، يقول ألكسندر غابوييف، إن الحرب الأوكرانية حدت بروسيا إلى الاعتماد بصورة متزايدة على الصين، ويرى أن الاتجاه الحالي للرنمينبي الصيني الذي تفوّق بالفعل على اليورو في بورصة موسكو، ليصبح «العملة الاحتياطية الفعلية لروسيا»، سيعني «مزيداً من اعتماد موسكو على بكين». الاختلالات التي كانت موجودة بين البلدَين تضخّمت، بعدما اضطرّت روسيا إلى خفض أسعار النفط الذي تبيعه للصين، في حين أن مصنّعي السيارات الصينيين - الذين أدركوا ندرة الخيارات التي تواجه المستهلكين الروس - قاموا في بعض الحالات برفع أسعار سياراتهم في روسيا بنسبة 50%، وفق ما يورد إيشان ثارور في «واشنطن بوست». بهذا المعنى، يلفت توماس لو وبيتر سينغر في «ديفنس وان»، إلى أن «الحرب في أوكرانيا سرّعت من التفاوتات في علاقات روسيا والصين الاقتصادية، وأكدت تبعيّة موسكو لبكين». وفيما رفضت الصين إدارة ظهرها لروسيا، فهي لم تمانع «الاستفادة من محنة حليفها أيضاً». ويرى غابوييف، من جهته، أنه «لإبقاء الصين سعيدة، لن يكون أمام القادة الروس خيار سوى قبول الشروط غير المواتية في المفاوضات التجارية، ودعم المواقف الصينية في المنتديات الدولية مثل الأمم المتحدة، وحتى تقليص علاقات روسيا مع الدول الأخرى، مِن مِثل الهند وفيتنام». وبحسب غابوييف: «تتحوّل روسيا إلى إيران أوراسية عملاقة: معزولة إلى حدّ ما، مع اقتصاد أصغر وأكثر تخلّفاً من الناحية التكنولوجية بفضل الأعمال العدائية للغرب، لكنها لا تزال كبيرة جداً ومهمّة للغاية».
في الاتجاه المقابل، يلفت الكاتبان أندريا كيندال تايلر، وديفيد شولمان، في «مركز الدراسات الاستراتيجية والدولية»، إلى أن بعض المحلّلين وصانعي السياسات افترضوا أن حرب روسيا في أوكرانيا «ستوقف مسار تعميق العلاقات الروسية - الصينية، ما من شأنه أن يُضعف الشراكة بين البلدَين. ومع أن هناك بيانات تدعم هذه الافتراضات، مِن مِثل تراجع الشركات والبنوك الصينية عن المبادرات الجديدة في السوق الروسية لتجنّب العقوبات الغربية، ومنْح وسائل الإعلام الرسمية الصينية أخيراً، أوكرانيا مساحةً غير خاضعة للرقابة، لانتقاد الكرملين»، بما يؤشّر، وفق الكاتبين، إلى أنه ستكون هناك حدود لشراكة «بلا حدود»، لكن «لا يخطئن أحد، فالصين وروسيا متحالفتان وتشتركان في اعتبار الولايات المتحدة أهمّ تحدٍّ أمني لهما، وتسعيان معاً إلى تحجيم قوّة أميركا ونفوذها. ما لم تُصعّد روسيا تكتيكاتها في أوكرانيا، ربّما باستخدام السلاح الكيميائي أو النووي، ستستمرّ العلاقات الروسية - الصينية في التعمُّق نتيجة للصراع، بصرف النظر عن نتائجه. وسيؤدّي التنسيق المتزايد بينهما في شأن المسائل الأمنية والجهود المبذولة لتشكيل نظام عالمي أكثر ملاءمة لمصالحها، إلى تعقيد التخطيط الاستراتيجي للولايات المتحدة وحلفائها والجهود المبذولة لصدّ الاستبداد على مستوى العالم». وإلى الدوافع الأساسية للعلاقات الروسية - الصينية، فإن «إضفاء الطابع الشخصي المتزايد على النظام السياسي الصيني سيكون - ديناميكياً - أكثر أهميّة من أيّ وقت مضى في تشكيل القرار الصيني، بما في ذلك القرارات المتعلّقة بروسيا». كما أن شي سيكون مدفوعاً بشكل متزايد بالحاجة إلى الحفاظ على صورته القويّة، ما من شأنه أن يحدّ من أيّ مَيْل إلى التراجع عن استثماره في شراكته مع بوتين. وحاله حال بوتين، لن يكون شي راغباً في أن يُنظر إليه على أنه يتراجع تحت الضغط الأميركي. ولأن الزعيمَين قاما بإضفاء الطابع الشخصي على علاقتهما - بل إن علاقتهما الشخصية كانت بالفعل محرّكاً رئيساً لتعميق الشراكة - فقد يُنظر أيضاً إلى التراجع عن دعم بوتين على أنه اعتراف باستراتيجية شي الخاطئة. لهذا، يُرجّح الكاتبان أن يسعى الرئيس الصيني إلى منع شريكه وأقرب أصدقائه، من السقوط.