طهران | استنفرت إيران كامل أجهزتها من أجل امتصاص تداعيات وفاة الفتاة مهسا أميني خلال احتجازها من قِبَل «شرطة الأخلاق»، خصوصاً أن هذه الواقعة جرى استغلالها على نحو كبير من قِبَل الأطراف المناوئة للنظام، والسعي لتحويل الاحتجاجات التي اندلعت في أعقابها إلى فتيل تفجير بوجه حكومة طهران. وإذ تَعِد السلطات بكشْف الحقيقة «مهما كانت ومن دون أيّ تحفّظ»، فإن الحادثة أعادت إلى الواجهة مجدّداً، الجدل حول دوريات الإرشاد والحجاب القسري، حيث انقسم الإيرانيون ما بين مؤيّد لهذه الإجراءات، ومناوئ لها بوصْفها لا تؤدّي إلّا إلى «تشويه سمعة الدولة وإثارة التذمّر والاستياء لدى الجماهير»
أثارت وفاة مهسا أميني، الفتاة الإيرانية البالغة من العمر 22 عاماً، في أحد مراكز الشرطة في العاصمة طهران، ردود فعل مدوّية داخل البلاد وخارجها، حتى تَحوّلت هذه الواقعة إلى «حديث الساعة» بالنسبة إلى المجتمع والدولة في إيران. وكانت أميني، المتحدّرة من مدينة سقز في محافظة كردستان، قَدِمت مع عائلتها إلى طهران لزيارة أقاربها، لتُقتاد في الـ13 من أيلول إلى أحد مقرّات «شرطة الأمن الأخلاقي»، بسبب ما اعتبرته الأخيرة «زيّاً غير مناسب» ترتديه الفتاة، ومن أجل «أخذ تعهّد منها وتوجيهها». لكن مهسا «أُغمي عليها فجأة» بعد فترة وجيزة من اعتقالها، لتُنقل إثر ذلك إلى أحد المستشفيات، حيث فارقت الحياة بعد ثلاثة أيام بسبب «الموت الدماغي». وأثار موتها حزناً وصدمة لدى شرائح مختلفة من المجتمع الإيراني، كما استتبع ردود فعل في الفضاء الافتراضي، حيث تَحوّل هاشتاغ «#مهسا_امینی» باللغة الفارسية، إلى «ترند» عالمي بعد حصوله على خمسة ملايين تغريدة وإعادة تغريد. كما شهدت بعض المدن الإيرانية، بما فيها طهران، تجمّعات احتجاجية، خلال الأيام الماضية.
ويُلقي المحتجّون باللائمة على الشرطة التي يَعتبرونها السبب في وفاة أميني، ويقولون إن موت الفتاة الدماغي يدلّ على أنها قد تكون تعرّضت للضرب أثناء احتجازها أو نقلها إلى مركز التحقيق، وهو ما تنفيه الشرطة. ومع ذلك، يرى البعض أنه حتى إن كانت الرواية الرسمية حول عدم تَعرّض مهسا للضرب، صحيحة، فإن الفتاة ربّما أصيبت بـ«سكْتة» بسبب الصدمة والخوف الناجمَين عن اعتقالها، وبالتالي تكون تهمة الشرطة في هذه الحالة التقصير. وعلى أيّ حال، فقد شدّد كبار المسؤولين الإيرانيين، خلال الأيام الأخيرة، على ضرورة متابعة الحادث، حيث زار عبد الرضا بور ذهبي، وهو ممثّل المرشد الأعلى علي خامنئي في محافظة كردستان، منزل أميني لتقديم العزاء لأسرتها، وطمْأنتها إلى أن «جميع المؤسّسات والأجهزة ستتّخذ اللازم من أجل الدفاع عن الحقوق المهدورة للسيدة أميني، وأنه لن يتمّ تجاهل أيّ حق لأسرة المغفور لها». كذلك، أكد الرئيس إبراهيم رئيسي، في مكالمة هاتفية مع عائلة مهسا، أنه سيتابع القضية لدى الأجهزة المعنيّة «حتى تتّضح ملابساته»، قائلاً إن «ابنتكم هي كابْنتي، وإن شعوري هو كأن هذا الحادث وقع لأحد أحبّائي بالذات». وشدّد رئيس البرلمان، محمد باقر قاليباف، بدوره، على ضرورة «الكشْف عن جميع أبعاد الملفّ»، مضيفاً أن «وفاة أميني أدخلت الحزن إلى قلوبنا». أمّا غلام حسين محسني إجئي، رئيس السلطة القضائية، فقد قال إن سلطته تتابع قضية وفاة أميني، وطمْأن إلى أن «هذا الموضوع تتمّ متابعته بدقّة والتأكد من النتائج المخبرية، على أن يتمّ الإعلان عن نتيجة التحقيق مهما كانت ومن دون أيّ تحفّظ».
يرى المعارضون أن استخدام القوّة والقسر في قضايا مِن مِثل الحجاب لا طائل من ورائه


وأعادت وفاة أميني، الجدل حول «دوريات الإرشاد»، إلى الواجهة. والدوريات المذكورة، التابعة لقوى الأمن الداخلي، تعمل تحت إمرة وزارة الداخلية، وقد بدأ نشاطها في عهد حكومة محمود أحمدي نجاد، وانتشرت في المناطق المكتظّة لتنبيه السيّدات اللواتي ترى أنهن يرتدين «زيّاً غير لائق»، أو اعتقالهنّ إن اقتضى الأمر. وعلى مدى السنوات الأخيرة، نُشرت صور عديدة عن مواجهات وقعت بين عناصر هذه الدوريّات والسيّدات، ما أثار انتقادات واسعة. ويرى حُماة «الإرشاد» أنه بما أن نظام الجمهورية قائم على القوانين الإسلامية، وبما أن تلك القوانين تُلزم النساء بارتداء الحجاب، فإن الدوريات تُعدّ ضمانة تطبيق النظام، والحيلولة دون ما يُسمّونه «انتهاك الحرمات» و«التحلّل الأخلاقي». وفي هذا الإطار، دافع محسن مهديان، المدير العام لمؤسّسة «همشهري» الإعلامية التابعة لأمانة طهران، عن «دوريات الإرشاد»، عادّاً إيّاها، في مقال، «ضرورة عقلانية». كما دافعت صحيفة «إيران» الحكومية عن أداء الدوريات، معتبرةً وفاة أميني «مجرّد حادث عرَضي»، حيث «لم يسبق أن شهد مجمل سجل شرطة الأمن الأخلاقي حادثاً مماثلاً». ووصفت مُعارضي الحكومة بـ«الانتهازيين» الذين يريدون «التنفيس عن عُقدهم السياسية»، ويحاولون إظهار «الإرشاد» وكأنها «حصيلة عمل الحكومة الثالثة عشرة، في حين أن مشروعها تبلوَر في عهدَي أكبر هاشمي رفسنجاني ومحمد خاتمي، ووُضع موضع التنفيذ في عهد أحمدي نجاد».
وفي المقابل، يرى المعارضون أن استخدام القوّة والقسر في قضايا مِن مِثل الحجاب لا طائل من ورائه، وأنه يؤدّي إلى تشويه سمعة الدولة وإثارة التذمّر والاستياء لدى الجماهير. وفي هذا السياق، أشار النائب في البرلمان، جلال رشيدي كوجي، إلى أن «نتيجة عمل دوريات الإرشاد لم تكن سوى فرض تكاليف على النظام والمساس به، بيد أن القضية الرئيسة هي أن ثمّة مَن يقاومون التسليم بالحقيقة»، فيما توقّع النائب أنور حبيب زادة بوكاني أن «يُدرج موضوع مراجعة أداء دوريات الإرشاد كأولوية على جدول أعمال البرلمان، وأن تتمّ إعادة النظر في أساليب عمل دوريات الإرشاد والأمر بالمعروف والنهي عن المنكر». على أن بعض الناقدين يرون أن جذْر المشكلة يكمن في إلزاميّة الحجاب، الذي يعدّونه أمراً اختيارياً، ويعتقدون أنه «ما كان يجب جعله إلزامياً أصلاً منذ بداية الثورة». ويرى هؤلاء أن هذا الإجراء ينتهك الحرّيات الفردية، وأن الإلحاح على تطبيقه أفضى إلى إعراض الكثير من النساء الإيرانيات عن الحجاب. ومن هنا، طالب حزب «اعتماد ملي إيران»، وهو من الأحزاب الإصلاحية، البرلمان بـ«إلغاء قانون الحجاب الإلزامي على وجه السرعة»، وقال «إن هذا القانون أصبح يناقض نفسه».
ويذهب العديد من المراقبين إلى أن الاحتجاجات الأخيرة في إيران، تؤشّر إلى وجود تَغيّر اجتماعي أساسي في البلاد، عنوانه طَلب المزيد من الحرية. ومع ذلك، فإن أحد التحدّيات التي تواجه هكذا مطالبات، هو أن البعض يتسبّبون بحرْفها عن مسارها، من خلال رفعهم شعارات سياسية راديكالية تدعو إلى إطاحة النظام، كما ويُقدمون على ارتكاب أعمال عنف، وهم يَدفعون بهذا النظام إلى المزيد من التشدّد بوجه الاحتجاجات. وفي السياق، سُجّل، خلال الفعاليات الاعتراضية على وفاة أميني، إقدام البعض على إحراق العلم الإيراني، أو إطلاق شعارات تدعو إلى الانفصال والإطاحة بنظام الحكم، أو حتى مهاجمة سيارات الإسعاف، الأمر الذي أسهم، كما في كلّ مرّة، في تهميش المطالب الأوّلية، ومهّد الطريق أمام قوات الأمن لإعادة الأمن والاستقرار.