مَن يراجع مسلسل علاقات تركيا مع إسرائيل منذ بدئها، حتّى وصول حزب «العدالة والتنمية» إلى السلطة عام 2002، يجد أن أيّاً من الزعماء الأتراك، من رؤساء جمهورية أو رؤساء حكومة، لم يزر إسرائيل ولم يلتقِ حتّى زعماءها خارج الكيان المحتلّ. وربّما كانت الزيارة السرّية (ليست الوحيدة) لرئيس الحكومة الإسرائيلية، ديفيد بن غوريون، عام 1958، لأنقرة، ولقاؤه رئيس الوزراء التركي الإسلامي، عدنان مندريس، هي الاستثناء الوحيد. لكن هذه «الثغرة» في العلاقات بين البلدين، جرى «تداركها» في عهد «العدالة والتنمية» منذ اللحظة الأولى. ولا يخطئ أرشيف العلاقة بين البلدين لجهة أن الزعيم التركي، رجب طيب إردوغان، لم يترك مسؤولاً إسرائيلياً إلّا التقاه، من شمعون بيريز إلى آرييل شارون، ومن بنيامين نتنياهو إلى إيهود أولمرت إلى إسحاق هرتسوغ.وإذا كان أحد قد استبشر مع وصول حزب «العدالة والتنمية» إلى الحُكم بإمكانية اتّخاذ مواقف أكثر تشدُّداً تجاه سياسات العدوّ، فقد أظهرت التطوّرات اللاحقة أن هذه العلاقات عَرفت ما يسمّى في لعبة «غينيس»: الأوائل؛ كأن يكون إلقاء الرئيس الإسرائيلي، شمعون بيريز، كلمةً أمام البرلمان التركي عام 2007، الواقعة «الأولى» من نوعها لرئيس حكومة العدو أمام برلمان دولةٍ مسلمة. كما ارتفع «للمرّة الأولى» وأكثر من مرّة حجم العلاقات التجارية بين البلدين، إلى أن لامس، العام الماضي، الثمانية مليارات دولار. وفي وثيقة اتفاق التطبيع بين البلدين، في 28 حزيران عام 2016، ذُكر أن التوقيع جرى في أنقرة وفي القدس بشكل متوازٍ، ما يعني، و«للمرّة الأولى»، اعترافاً تركيّاً ضمنيّاً بالقدس عاصمة للكيان. حتى الإعلام التركي، كان يروّج لذلك عبر إيراد أحد الأسئلة أمام المشاهدين في المحطة الرسمية الأولى، عمّا إذا كانت القدس عاصمة لإسرائيل أم سويسرا، ليأتي الجواب في نهاية الفقرة بأن القدس هي عاصمة إسرائيل لا سويسرا.
لذلك، فإن «الكشف» عن أحداث تدخل على خط العلاقات التركية - الإسرائيلية في العامين الأخيرين، ولا سيما بعد استئناف «تطوير» العلاقة على المستوى السياسي، وزيارة الرئيس الإسرائيلي إسحاق هرتسوغ لتركيا أخيراً، لم يَعُد من قبيل المفاجأة. مع ذلك، يمكن التذكير ببعض الخطوات التي حصلت في الفترة الأخيرة، وبعضها لم يُثر انتباه الإعلام العربي. ويمكن، في هذا السياق، إدراج خبر توقيع اتفاق حول الطيران بين البلدين يوم الخميس الماضي، على أنه «الأوّل» أيضاً منذ عام 1951. لكن الإعلان بدا خادعاً، بحيث أظهر كما لو أنه للمرّة الأولى أيضاً تنفتح المجالات الجوية لكلّ بلد أمام طائرات الطرف الآخر. وهذا غير صحيح، إذ إن الرحلات الجوية بينهما متواصلة منذ عام 1951. وكل ما في الأمر أن الرحلات الجوية الإسرائيلية، وبقرار إسرائيلي، توقّفت نهائياً في شباط 2019، فيما لم تتوقّف الرحلات الجوية التركية إلى إسرائيل التي استفادت و«حصدت»، على مدى سنوات، كل المسافرين الإسرائيليين إلى تركيا أو عبرها إلى دول أخرى. لذا، فإن خطوة الخميس مجرّد توقيع اتفاق لرحلات لم تتوقّف يوماً.
في مطلع تموز الجاري، أعلنت إسرائيل أنها ستعيد فتح ملحقيّتها التجارية في تركيا، بعد إغلاق قارب العشر سنوات


وفي مطلع تموز الجاري، أعلنت إسرائيل أنها ستعيد فتح ملحقيّتها التجارية في تركيا، بعد إغلاق قارب العشر سنوات بسبب «الخلافات» بين البلدين. وبحسب وزيرة الاقتصاد الإسرائيلية، أورنا باربيفائي، فإنه بدءاً من الأوّل من آب المقبل، سيُعاد فتح الملحقية التجارية الإسرائيلية في إسطنبول، في قرار «يعكس تقيّد الأفرقاء بتعهّداتهم تطوير العلاقات الاقتصادية»، معتبرةً أن فترة انقطاع عشر سنوات طويلة جداً. ولفتت إلى أن الجانبين يهيّئان منذ الآن لعقد مؤتمر اقتصادي مشترك، كاشفةً أن 1500 شركة تجارية إسرائيلية تصدّر منتجاتها إلى تركيا، تدعم بقوّة الخطة الإسرائيلية الرسمية. والجدير ذكره هنا، أن حجم العلاقات التجارية بين البلدين يقارب، وفقاً للرئيس التركي، أكثر من تسعة مليارات دولار.
وتمظهر التقارب التركي - الإسرائيلي أيضاً في الزيارة الجماعية لمجموعة من الصحافيين الأتراك من مختلف الاتجاهات إلى إسرائيل في النصف الثاني من حزيران المنصرم، بدعوةٍ من وزارة الخارجية الإسرائيلية. ووفق صحيفة «شالوم» التركية، الناطقة باسم الجماعة اليهودية في تركيا، والتي تصدر باللغة التركية، فإن الوفد شارك في نشاطات ولقاءات متعدّدة و«ظهر على أفراده التأثر الكبير (حرفيّاً) لدى زيارته متحف الهولوكوست ياد فاشيم، كما بدا عليه التأثّر من الجوّ الساحر للقدس قبل أن يكمل إلى تل أبيب». وقبل ذلك بأقلّ من شهر، كانت مجموعة من 32 إسرائيلياً تقوم بجولة ميدانية واسعة في منطقة مشروع جنوب شرق الأناضول، شملت كل معالم المنطقة الدينية والأثرية والزراعية والسياحية.
ولم يكن من قبيل الصدفة أن يصدر أخيراً كتاب مصوّر بعنوان «السوق/ شوك» للأنتروبولوجية البولندية، كورنيللا بينيجويتس، والمصوّر الإيطالي، إيطالو رودينيللا. وقد ساهم في إصدار الكتاب متحف «آنو» في تل أبيب، بتكليف من القنصلية الإسرائيلية في إسطنبول. الكتاب، الذي صدر باللغات التركية والإنكليزية والعبرية عن دار نشر تركية، هو ألبوم صور نادرة وملوّنة للشوارع والأسواق في إسطنبول وتل أبيب للمصوّر الإيطالي، مترافق مع مقالات وتعليقات للكاتبة البولندية. ويحاول الكتاب توثيق وتتبّع مسار تطوّر الأسواق الشعبية، ولا سيما المأكولات، والتقليدية التي تنقرض في مناطق كانت تعدّ أسواقاً تراثية. والأسواق، وفقاً للكتاب، هي الأماكن التي يمكن للمجتمع فيها إحياء ذاكرته التاريخية والديموغرافية، وإعادة اكتشاف تعدّديته وفهم تنوعه، وهي أيضاً أماكن للاستكشاف الحَضري، حيث يمكن ملاحظة التغييرات الحتميّة في نسيج المدينة. والكتاب الذي أعلن عنه في منتصف حزيران، في مبنى قديم في منطقة «بالاط»، لم يَجد تعريفاً أفضل من أنه «يعكس أوجه التشابه في الجينات الثقافية بين تركيا وإسرائيل». وعلى هذا، يحاول الكتاب أن يقدّم صوراً متشابهة للمهنة نفسها (بائع الشاورما أو الفلافل مثلاً) في إسطنبول وفي تل أبيب. كما يصف المدينتين بـ«التاريخيتَين»، وإذا كان لإسطنبول أن تكون كذلك، فكيف يمكن ابتلاع أن تل أبيب «تاريخية»؟ من هنا، يدخل الكتاب في عملية «التطبيع» عندما يتحدّث عن التشابه بين بائع السمك المشوي بالخبز في إسطنبول، وتلك «الشراكة» للسندويش نفسه في تل أبيب بين بائعَيه الإسرائيلي والفلسطيني، والتي تحمل «نكهة السلام» للطبيعة البشرية.
لا تبدو عملية «التشبيك» بين تركيا وإسرائيل مجرّد عملية سياسية أو ربحية تجارية، بل تقترب وبقوّة من أن تكون محاولة تضليلية على أوسع نطاق من جانب العقل الصهيوني، ويشارك فيها للأسف مَن لا يرى منها، في تركيا، سوى الجانب الذي يؤمّن، بحسب الاعتقاد، الطريق السريع للبقاء في السلطة بعد عام من الآن، وإن على حساب الذاكرة والتاريخ والإرث الشعبي.