للمرة الثالثة خلال 20 عاماً، صوّتت غالبية نسبية من الفرنسيين ضدّ مرشّح/ مرشّحة اليمين المتطرّف، وليس تماهياً مع برنامج المرشّح المنافس له، في الدورة الثانية من الانتخابات الرئاسية، ما سمح للأخير بالفوز بها. حصل ذلك في عام 2002، خلال المنافسة بين جاك شيراك وجان ماري لوبين، وفي عامَي 2017 و2022، بين إيمانويل ماكرون ومارين لوبين. اعترف ماكرون بفضل الناخبين المناهضين لـ»التجمّع الوطني» عليه (وهم 43% من الذين صوّتوا له بحسب معهد «إيفوب»). لكنّ هزيمة مرشّحة حزب «التجمّع الوطني»، اليميني المتطرّف، لا تُلغي حقيقة الاتّساع التدريجي والمستمر لقاعدته الشعبية: 17,79% من أصوات الناخبين في عام 2002، 33,9% في عام 2017، و41,2% في عام 2022. لم تلتحق فرنسا بركب البلدان الديموقراطية العتيدة، التي أوصلت رموزاً فجّة لـ»العصبية البيضاء»، أو لـ»الشعبوية» اليمينية، وفقاً للإعلام الغربي السائد، إلى السلطة، كدونالد ترامب وبوريس جونسون وفيكتور أوربان وجايير بولسونارو، وفضّلت عليهم رمزاً «ناعماً» لها، بشخص إيمانويل ماكرون. غير أنّ ما كان يوصف بـ»الطاعون الفاشي»، في العقود الماضية، تحوّل إلى حزب طبيعي يحظى بتأييد علني من قبل قطاعات متزايدة من الفرنسيين. هذا أوّل تطوّر بارز كشفت عنه الانتخابات المذكورة. التطور الآخر، هو إعادة تشكّل يسارٍ جذري، وهو حزب «فرنسا غير الخاضعة»، بقيادة جان لوك ميلانشون، والذي شارك في الدورة الأولى للانتخابات الرئاسية، وحظي بـ 21,95% من أصوات الناخبين، وهي نسبة أعلى من تلك التي حصل عليها في الدورة الأولى من انتخابات عام 2017 الرئاسية، والتي كانت 19,58%. وفي حال تمكّن هذا الحزب من التوصّل إلى تفاهمات مع بقيّة الأحزاب والقوى اليسارية المناهضة للنيوليبرالية، كالحزب الشيوعى والحزب المعادي للرأسمالية، وتيار في «حزب الخضر»، فإنّ ذلك سيعني نشأة قطب سياسي جديد على الساحة الفرنسية. التطوّر البارز الثالث، هو الارتفاع المستمر في نسبة العزوف عن المشاركة في التصويت في الانتخابات الرئاسية: 16% في عام 2007، 19,6% في عام 2012، 25,3% في عام 2017، و28,2% في عام 2022. كرّست انتخابات 2022 عودة الاستقطاب إلى المشهد السياسي الفرنسي، مع اضمحلال «أحزاب الحكم» التقليدية بجناحَيها اليساري واليميني، والتي تقاطعت في توجّهاتها النيوليبرالية والأطلسية، ووراثتها بمعنى ما من قبل ماكرون، في مقابل صعود متنامٍ للفاشية من جهة، وإعادة تنظيم اليسار الجذري لصفوفه.
النيوليبرالية والاستقطاب الاجتماعي والسياسي
يمثل إيمانويل ماكرون، جنباً إلى جنب مع نظيره الأميركي جو بايدن، تيّاراً أيديولوجياً سياسياً آخذاً في الضمور على صعيد دولي، ما زال يروّج لفضائل العولمة النيوليبرالية، رغم اتّضاح تداعياتها الاقتصادية والاجتماعية الكارثية بالنسبة إلى قطاعات عظيمة من شعوب المعمورة، بما فيها قطاعات شعبية وازنة في بلدان الغرب. الرئيس الفرنسي الذي جوبِه بعد سنة ونيّف من وصوله إلى موقع القرار، بانتفاضة عارمة لـ»السترات الصفر»، وانخفاضٍ كبير في معدّلات شعبيّته، لم يشرع بمراجعة جدية لسياساته، نتيجة لإيمانه العميق بقدرة آليات السوق، في المحصلة النهائية، على تصحيح «الاختلالات الظرفية» التي قد تسبّبها خلال المراحل الأولى من وضعها موضع التطبيق. صحيح أنّ جائحة «كورونا»، ومفاعيلها الاقتصادية، فرضت عليه مُرغماً اتّخاذ جملة من الإجراءات «التدخّلية» للحدّ منها، لكنّ جوهر السياسة الاقتصادية التي أصرّ على اعتمادها، والتي تقوم على الحدّ من الدور الاجتماعي للدولة، لم تتغيّر. نظرةٌ سريعة إلى خريطة التصويت خلال الدورة الأولى للانتخابات الرئاسية، والتي تعكس الخيارات الفعلية للناخبين، تُظهر أنّ قسماً واسعاً من الأحياء الشعبية في المدن الكبرى، وفي الضواحي، وكذلك جزءاً معتبراً من الأرياف، صوّتوا ضدّ ماكرون. أتى التصويت «الاحتجاجي»، وفقاً للتعبير السائد، لمصلحة اليمين المتطرّف من جهة، والقوى اليسارية المعادية النيوليبرالية من جهة أخرى.
يرى اليمين المتطرّف في استهداف المهاجرين غاية مركزية للحفاظ على «نقاء الهوية الفرنسية»

وبمعزل عن الفوارق البرنامجية الحاسمة بين هاتين القوّتين، فإنّ ماكرون وفريقه يدركان أنّ السنوات الخمس المقبلة من ولايته الثانية، ستكون حافلة بالصراعات السياسية والاجتماعية التي سيوظّفها خصومه ضدّه. هو حاول، في خطابه خلال الفترة الفاصلة بين الدورة الأولى والثانية من الانتخابات، وكذلك بعد إعلان نتائج الأخيرة، أن يستعير بعض الشعارات التي يطرحها اليسار حول المسألة الاجتماعية والبيئة، غير أنّ خياراته الرئيسية بقيَت على حالها. هذا ما قد يفسّر عزوف بعض ناخبي اليسار عن التصويت لمصلحته في الدورة الثانية. لسان حال هؤلاء هو أنّ سياساته، إضافة إلى كونها تتناقض مع مصالح الطبقات الشعبية وتطلّعاتها، تعبّد الطريق لانتصارٍ حتمي لليمين المتطرّف الآن، أو بعد خمس سنوات. لذلك، لا ضير من المساهمة في إسقاطه حتى لو وصل اليمين المتطرّف إلى السلطة، لأنّ المواجهة عندها ستصبح أوضح، وسيستطيع اليسار أن يقود المعركة ضدّه. تنظيمات اليسار الأساسية قرّرت التصدّي لخطر فوز اليمين المتطرّف، لكنّها، بمجرّد الإعلان عن نتائج الدورة الثانية، باتت بصدد الاستعداد لتحويل الانتخابات التشريعية في حزيران المقبل، إلى دورة ثالثة موجّهة ضدّ ماكرون وسياساته، بغية الفوز بها وفرض جان لوك ميلانشون رئيساً للحكومة.

الفاشية الزاحفة
نسبة التصويت التي حظي بها اليمين المتطرّف هي الأعلى في تاريخه في فرنسا. يعتقد بعض المحلّلين، وبينهم من هو معادٍ بحقّ للإمبريالية الأميركية في العالم العربي، أنّ تحوّلات حقيقية طرأت على تصوّرات الحزب الذي يمثّله، أي «التجمّع الوطني»، وأنّه أصبح معارِضاً للسياسة الأميركية، ويتمتّع بعلاقات جيّدة مع روسيا، وأنّه تبنّى توجّهات تتناقض مع النيوليبرالية. يتناسى هؤلاء بداية الترابط العضوي بين نشأة هذا الحزب، وبين هزيمة الاستعمار الفرنسي في الجزائر. النواة المؤسّسة لـ»الجبهة الوطنية»، والتي أصبحت مع مارين لوبين «التجمّع الوطني»، هم من أنصار «الجزائر الفرنسية»، الذين شاركوا في الحرب ضدّ الشعب الجزائري، وفي طليعتهم جان ماري لوبين، الذي كان مظلّياً وارتكب مجموعة من الجرائم الموثّقة ضدّ معتقلين جزائريين. تأسّس الحزب في أوساط الذين عارضوا موافقة الجنرال ديغول على استقلال الجزائر، وانضمّ بعضهم إلى منظمة الجيش السرّي الإرهابية. قضية الحزب الأولى منذ إنشائه كانت طرد المهاجرين العرب، وخصوصاً الجزائريين، باعتبارهم طابوراً خامساً في فرنسا، ويقومون بسرقة وظائف الفرنسيين الأصليين ولقمة عيشهم. أطروحة «الاستبدال الكبير» التي تبشّر بها مارين لوبين وإريك زيمور، أي حلول المهاجرين وأبنائهم تدريجياً، وبفضل معدّلات الولادة المرتفعة لديهم، مكان الفرنسيين «الأصليين»، هي مجرّد استعادة لأطروحات «الجبهة الوطنية» عند تأسيسها. وعبر الربط بين الهجرة والإسلام والإرهاب، يحاول «التجمّع الوطني» استنفار العصبية البيضاء، المستفزّة أصلاً في طول الغرب وعرضه، بسبب التحوّلات الدولية وتراجُع نفوذه، لكسب الأصوات للوصول إلى السلطة. وقد أعطت مارين لوبين مثالاً جديداً عن طبيعة مشروعها، عندما قالت إنّها ستمنع الحجاب في الفضاء العام، في حال وصولها إلى السلطة. تقسيم السكّان إلى أصلي ووافد، واعتبار الوافدين طابوراً خامساً ينبغي التخلّص منه، هو السمة المشتركة بين جميع قوى اليمين المتطرّف في الغرب، وهو الفارق الجوهري بينها وبين الأطراف المعادية حقّاً للنيوليبرالية التي تحدّد النظام عدوّاً، وليس قطاعاً آخرَ من السكان. الإسلاموفوبيا هو ما جمع مارين لوبين بدونالد ترامب والعناصر الأكثر تطرّفاً في فريقه، كستيف بانون، وهو ما سهّل أيضاً تقاربها مع اليمين الصهيوني، حالها في ذلك حال فيكتور أوربان في المجر، وتنظيمات اليمين المتطرّف في أوروبا، التي تنظر إلى إسرائيل على أنّها رأس حربة الغرب في صراعه مع الإسلام. صحيح أنّ إيمانويل ماكرون، عندما تحدّث عن انفصالية إسلامية، لدواعٍ انتخابية انتهازية، أعطى تسويغاً رسمياً لدعاية اليمين المتطرّف، غير أنّ هذا الأخير، على عكس ماكرون، يرى في استهداف المهاجرين وأبنائهم، والتنكيل بهم لترحيلهم، غاية مركزية للحفاظ على «نقاء الهوية الفرنسية»، وهو يعي أنّ التشويش الفكري السائد في ظلّ الأزمات التي يولّدها تداعي العولمة النيوليبرالية، يتيح اجتذاب شرائح وازنة من الفئات المتضرّرة منها. الفاشية عادت لتطلّ برأسها من جديد.