ليس مفاجئاً أن يضفي قادة العدو على لقاء النقب، برعايةٍ ومشاركة أميركية، طابعاً احتفالياً وتاريخياً. فهو يأتي - كبقية المحطّات - في ظلّ تحولّات متسارعة في معادلات القوّة الإقليمية، وما تحمله من مخاطر على الأمن القومي الإسرائيلي، وإعادة تشكيل الخريطة العالمية التي تفرض تحديّات مشتركة على المنضوين في المعسكر الغربي والملتحقين بقطار التطبيع. وعلى الرغم من أن اللقاء ليس على مستوى الرؤساء، إلّا أن الرواية الإسرائيلية حرصت على الترويج له تحت عنوان «قمّة النقب»، انطلاقاً من أبعاده الرمزية والسياسية. ويتّضح أن جانباً من الهالة التي يتم إضفاؤها على هذا اللقاء، يعود إلى حرْص رئيس الحكومة الإسرائيلية، نفتالي بينيت، الذي يحاول أن يُظهر بأن إسرائيل، تحت قيادته، كما عبَّر أمام جلسة الحكومة، كمَن «يلعب دوراً على المنصّة العالمية والإقليمية»، وبأنه يضيف جديداً إلى ما حقّقه أسلافه: «نحن نُنمّي روابط قديمة، ونبني جسوراً جديدة».ويتّضح أيضاً أن التطورات الإقليمية المتسارعة حفَّزت عقْد قمّة شرم الشيخ، التي يبدو أنها مهّدت لهذا اللقاء. لقاءٌ يجمع إلى وزير الخارجية الأميركي أنتوني بلينكن، ونظيره الإسرائيلي يائير لبيد، كلّاً من وزير الخارجية الإماراتي عبدالله بن زايد، والبحريني عبد اللطيف الزياني، والمغربي ناصر بوريطة. إلّا أن الرمزية التي تُعمِّق الإساءة للشعب الفلسطيني هو أن يكون اللقاء في مستوطنة «سديه بوكر». إذ يدرك الوزراء العرب خلفية اختيار القيادة الإسرائيلية لهذا المكان من زاويتَين: الأولى، أن الرمزية الصهيونية لهذه المستوطنة تنبع من كون المسؤول عن نكبة الشعب الفلسطيني وتهجيره من وطنه، ومؤسّس الكيان الإسرائيلي، دافيد بن غوريون، عاش فيها آخر أيام حياته بهدف تشجيع الاستيطان في النقب، ومقبور فيها؛ والثانية أن الأجهزة الأمنية والسياسية، عزّزت، في هذه المرحلة، من سياسة التنكيل بسكان النقب، بفعل مواصلة سياسة التهويد التي تمارسها إسرائيل على حساب السكان الأصليين. ويأتي اللقاء في هذه المنطقة، ليعبّر عن تجاهل لمعاناة الشعب الفلسطيني، وليمعن في الإساءة لسكان النقب، وليوجّه رسالة صريحة إلى الشعب الفلسطيني مفادها بأنهم يشكلون عبئاً على خياراتهم الاستراتيجية.
ويغيب عن هذا «التحالف الإقليمي»، ممثّل عن ولي العهد السعودي، محمد بن سلمان، الذي جاهر، في مقابلة أجراها أخيراً مع مجلة «أتلانتيك» الأميركية، بـ»(أننا) لا ننظر إلى إسرائيل كعدو، بل ننظر إليها كحليف محتمل في العديد من المصالح التي يمكن أن نسعى إلى تحقيقها معاً. لكن يجب أن تحلّ بعض القضايا قبل الوصول إلى ذلك». وبذلك، يعلن انتماءه الرسمي إلى ما يتجاوز البعد التقليدي للتطبيع مع الاحتلال الإسرائيلي إلى مستوى التعامل كحلفاء، الأمر الذي يجسّد ارتقاءً في الخطاب الرسمي العلني، مع أن الأداء العملي تجاوزه منذ سنوات. ويؤشر هذا الموقف أيضاً إلى أنه، وعلى رغم عدم إرساله ممثّلاً رسمياً عنه، لكن ابن سلمان، من الناحية العملية، جزء لا يتجزّأ من لقاء سديه بوكر.
الرمزية التي تُعمِّق الإساءة للشعب الفلسطيني هو أن يكون اللقاء في مستوطنة «سديه بوكر»


وفي حين لا يُتوقّع أن يصدر عن هذا اللقاء قرارات واتفاقات مفصلية جديدة، فهو يعكس المخاوف المشتركة للأطراف المشاركة فيه، من التطورات التي تشهدها البيئة الإقليمية على مسارَين: مرحلة ما بعد الاتفاق النووي، إضافة إلى التحوّلات المتسارعة في معادلات القوّة. في ما يتعلّق بالبعد الأوّل، كشفت «القناة 13»، أن الأجهزة الأمنية الإسرائيلية ترى أن مسألة عودة الولايات المتحدة إلى الاتفاق النووي مسألة محسومة، وهي بدأت تناقش اليوم الذي يلي ذلك، وما تستطيع إسرائيل أن تفعله في هذا المجال. أمّا في البعد الثاني، فإلى جانب التحوّلات التي شهدتها إيران و»حزب الله» الذي يواصل تصنيع المسيّرات وتحويل الصواريخ إلى دقيقة، كشفت الردود اليمنية الأخيرة ضدّ منشآت حيوية في السعودية، عن اتجاه تحوّلات القوّة. والحدث الذي يمكن أن يختصر انعكاس هذه التحوّلات في الداخل الإسرائيلي، هو تأهّب سلاح الجو الإسرائيلي لحماية لقاء النقب، خوفاً من تهديدات جوية من جهة اليمن.
في مواجهة هذه المسارات والتحوّلات، يأتي تعزيز الاتصالات واللقاءات والزيارات والاتفاقات بين إسرائيل والعديد من الدول الإقليمية، باعتباره جزءاً من مسار تأسيسي لتحالف يهدف إلى محاولة احتواء تداعيات المرحلة المقبلة وما تحمله من مخاطر على أتباع المعسكر الغربي في المنطقة. وبحسب تقارير إسرائيلية، فإن أحد المواضيع المهمّة التي سيطرحها الجانب الإسرائيلي، وهي عنوان ثابت في كل لقاءاته الإقليمية والدولية، كيفية الاستفادة من هذه التحالفات عبر نشر منظومات كشف وإنذار من الصواريخ والمسيّرات الإيرانية وبقية أطراف محور المقاومة.
مع هذا، يتأكد أن كل هذه اللقاءات وما سبقها وسيتبعها، لن توقف المسار التصاعدي لمحور المقاومة الذي انتقل إلى مرحلة جديدة بدأت ملامحها تتّضح أكثر فأكثر. لكن ما يقلق تل أبيب، هو حصول انفجار شعبي فلسطيني يطيح أهداف المسار التطبيعي الذي تتسارع وتيرته، وتفاخر به وزير الخارجية الأميركي، بالقول: «يحدث أمر استثنائي لم يكن يبدو منطقياً قبل عدة سنوات. التطبيع تحول إلى نهج جديد في المنطقة، وأنا أعتقد بأن هذا سيمتدّ إلى دول إضافية. الولايات المتحدة فخورة جداً بكونها جزءاً من هذا المسار».
في الخلاصة، يرجّح صحة ما أشارت إليه تحليلات إسرائيلية بأنه لن يصدر عن لقاء النقب أيّ قرارات جدية، إلّا أن أصل انعقاده ومكانه وسياقاته تشكّل تأكيداً إضافياً على مشاركة الطرف العربي في المخطّط الصهيوني الذي يستهدف القضية الفلسطينية. ومن الواضح أن إسرائيل هي المستفيد في كل هذه المحطات. أما بالنسبة إلى دول الخليج، فهي خزّان نفطي ومالي يمكن لها تطوير اقتصادها عبر المشاركة في نهب ثرواتها، فضلاً عن أنها مواقع جغرافية متقدّمة يمكن أن تلعب دوراً محدَّداً في منظومة الإنذار المبكر التي تحتاجها إسرائيل في مواجهة الصواريخ البعيدة المدى والمسيّرات التي قد تنطلق من مسافات بعيدة. ومن أبرز من عبّر عن هذا المفهوم، رئيس الوزراء السابق، إيهود باراك، الذي قال إن ما يجري يُعدّ «تطوّراً مهماً جداً، على أمل أن يكون هناك استكمال له على صعيد التنسيق الأمني بشكل خاص ضدّ المسيّرات، وربما الصواريخ الباليستية الإيرانية، وضد جزء من أعمالهم عبر الوكلاء، وأيضاً في المجالات الاقتصادية والتعاون بالإجمال».