لم يفاجأ المسؤولون الأميركيون والغربيون بوصف وزير الخارجية الصيني، وانغ يي، في المؤتمر الصحافي الذي عقده على هامش الاجتماع السنوي للبرلمان الصيني، في السابع من هذا الشهر، قوة العلاقات بين بلاده وروسيا بأنّها «راسخة ومتينة كالصخر». وعلى أغلب الظن، فإنّ هذا الوصف أتى كردٍّ غير مباشر على التحذيرات المبطّنة التي وجهها له نظيره الأميركي، في مكالمة هاتفية بينهما في الخامس منه، عندما أعلمه بأنّ «العالم يراقب الدول التي تدافع عن مبادئ الحرية وتقرير المصير والسيادة». وكان جيك سوليفان، مستشار الأمن القومي للرئيس الأميركي، قد أطلق تحذيرات أوضح تجاه الصين، عشية لقائه مع كبير مسؤولي الشؤون الخارجية في «الحزب الشيوعي الصيني»، يانغ جيه تشي، في روما الاثنين الماضي، عندما لوّح بـ»عقوبات وخيمة» ستستهدفها، في حال مساعدتها موسكو في «التحايل على العقوبات الغربية ضدها». على الرغم من هذه التحذيرات العالية النبرة، لم يُفاجأ المسؤولون الغربيون بالموقف الصيني، لأنّهم يعرفون أن الصينيين يقرأون! فالبلد المصنّف رسمياً «تهديداً مركزياً»، منذ حوالى عقد من الزمان، عند إعلان الرئيس باراك أوباما استدارته الشهيرة نحو آسيا، في عام 2012، والتي انتهجت حياله جميع الإدارات الأميركية المتعاقبة سياسات عدائية علنية، مدرك للطبيعة الاستراتيجية للمواجهة التي يخوضها مع واشنطن. اعتقد بعض المؤمنين بالنظريات التي سادت في بداية موجة العولمة النيوليبرالية، أنّ ما سينجم عنها من تداخلٍ في المصالح الاقتصادية ومن تبعية «متبادلة»، سيعني بالضرورة نهاية الصراع والتنازع بين القوى الكبرى. هذا ما حدا مثلاً بالأكاديمي الأميركي، نوح فلدمان، إلى ارتكاب كتابٍ بعنوان «الحرب الهادئة»، (Cool War)، التي ستحلّ في مكان تلك الباردة، أو بالمفكر الفرنسي، برتران بادي، للجزم بأن حشد روسيا لقواتها على حدود أوكرانيا، لن يليه تدخلٌ عسكريٌ في هذا البلد، نظراً لحجم المصالح المشتركة بينها وبين الدول الغربية، وأنّ ما تقوم به هو «ديبلوماسية استعراضية» لا أكثر. قيل هذا الكلام قبل يوم من التدخّل الروسي في أوكرانيا. أول الاستنتاجات التي يمكن استخلاصها من الأزمة الدولية الكبرى الراهنة، هو أن الاعتبارات الاستراتيجية تطغى على تلك الاقتصادية في حسابات الدول المعنية بها. ينطبق هذا الأمر على مواقف الدول الغربية، التي تسعى لإيجاد بدائل عن شراكتها المُجزية مع روسيا في ميدان الطاقة مثلاً، وعلى موقف الأخيرة، التي قررت اللجوء للقوة العسكرية، على الرغم من التداعيات الاقتصادية والمالية لذلك. ستحكم الاعتبارات الاستراتيجية أيضاً موقف الصين من هذه المجابهة الدولية، التي ستؤثّر مآلاتها في مسار إعادة توزيع القوة على صعيد الكوكب.
هزيمة استراتيجيات الاحتواء
بعد حشد القوات الروسية على حدود أوكرانيا، ولكن قبل تدخّلها في هذا البلد، أعلن الرئيسان الروسي والصيني خلال مشاركة الأول في افتتاح أولمبياد بكين، في الرابع من شباط الماضي، عن «صداقة بلا حدود» بين بلديهما، من خلال بيان مشترك أتى ليفسّر ويسوّغ الانتقال إلى مستوى عالٍ من الشراكة بينهما. عددٌ كبير من المعلّقين الغربيين مقتنعون بأن فلاديمير بوتين لم يكتفِ بإطلاع نظيره الصيني على نواياه تجاه أوكرانيا، بل حتى قام بتأجيل موعد العملية العسكرية إلى ما بعد الأولمبياد. بجميع الأحوال، فإن المؤكد هو أن توقيت هذا البيان - المنعطف، بالنسبة للرئيسين لم يكن مصادفة. لا ريب في أن بوتين قد ضمن دعم «صديقه» الصيني، قبل الدخول في حرب بالوكالة مع حلف «الناتو»، وأن الأخير، عبر الموافقة على إصدار مثل هذا البيان في أوج الأزمة مع أوكرانيا، وتوالي الاتهامات الغربية لروسيا بالتحضير لتدخّل عسكري، قد قدّم مثل هذا الدعم. من اللافت أن أجهزة الدعاية الأيديولوجية الغربية شرعت تسوّق الاتهامات نفسها التي وجّهتها لبوتين، والمتعلّقة بفرديّته، وسيطرته المطلقة على عملية صناعة القرار، وإحاطة نفسه بأتباع لا بأنداد، حيال شي جينبينغ. فهذا جود بلانشيت، الباحث في الشؤون الصينية في «مركز الدراسات الاستراتيجية والدولية» الأميركي، يعتبر في مقال في «فورين أفيرز»، التي تعكس نقاشات النخبة السياسية الأميركية، بعنوان «شي جينبينغ في وضع صعب»، أن «قرار الزعيم الصيني إصدار إعلان عن شراكة بلا حدود مع موسكو، هو أكبر خطيئة ارتكبها في ميدان السياسة الخارجية، منذ وصوله إلى السلطة قبل 10 سنوات».
فرضية اعتماد التحالف الغربي لاستراتيجية استنزاف ضدّ روسيا تتجاهل المخاطر الهائلة المترتّبة عليها

يسهب بلانشيت في تفصيل ما يراه استيلاء للرئيس الصيني على كافّة المواقع والمؤسّسات المعنية بصناعة القرار، ليخلص إلى أن سياسات هذا البلد باتت خاضعة تماماً لقناعات ورؤى رئيسها «المهجوس» بتآمر الغرب عليه. الانتشار العسكري الأميركي الذي بدأ في جواره، منذ عقدين، وتعاظم في الآونة الأخيرة، والأحلاف الموجهة ضدّه، كـ»أوكوس» و»كواد»، ناهيك عن حملات التحريض عليه ومساعي زعزعة استقراره في داخل حدوده، ليست سوى تهويمات في ذهن زعيمٍ يعاني من البارانويا! الواقع هو أن جوار الصين البحري والبري، أصبح يضم عدّة بؤر توتّر بفعل استراتيجية الاحتواء الأميركية، التي تحرّض اليابان على مواجهتها في بحرها الشرقي، وتعزّز النزعة الانفصالية في تايوان، وتشجّع فيتنام والفيليبين وإندونيسيا وماليزيا وبروناي على الائتلاف ضدّها في بحرها الجنوبي، وتشدّ من أزر الهند في مقابلها بالنسبة لخلافاتها الحدودية معها. ليس من المبالغة القول بأن مساندة روسيا في معركتها ضدّ استراتيجية الاحتواء الأميركية، هو مقدّمة لإفشالها في جوار الصين.

بعد أن تسكت المدافع
التقدير السائد في موسكو، وعلى الأغلب أيضاً في بكين، لموازين القوى الإجمالية السياسية والعسكرية، هو أنّها تَرجح لغير صالح التحالف الغربي. صحيح أن الأخير مدّ، وما زال يمدّ، الأوكرانيين بأسلحة متطوّرة مضادة للدروع والمروحيّات والطائرات، مكّنتهم من القتال الاعتراضي ضدّ القوات الروسية، وإلحاق خسائر جدية في صفوفها، غير أن الأخيرة هي التي تتقدّم في الميدان، وتضيّق الخناق على المدن الرئيسة في الشرق والجنوب، تمهيداً لاقتحامها. هي نجحت أيضاً في تدمير القسم الأكبر من البنية التحتية العسكرية الأوكرانية، بما فيها مختبرات الأسلحة البيولوجية التي أنشأتها الولايات المتحدة، وكذلك المطارات المستخدمة لإرسال السلاح إليها من قبل القوى الغربية. ما هي الخيارات المتاحة أمام القوى الغربية، بعد دخول القوات الروسية إلى كييف وانهيار النظام الأوكراني؟ فرضية اعتماد التحالف الغربي لاستراتيجية استنزاف طويلة الأمد ضدّ روسيا تتجاهل المخاطر الهائلة المترتّبة عليها، ومنها احتمال صدام مباشر بينها وبين «الناتو»، و / أو قيام الأولى بتأجيج التناقضات في منطقة البلقان في قلب أوروبا، ومبادرتها إلى دعم خصوم الولايات المتحدة في الشرق الأوسط وأميركا اللاتينية بأسلحة نوعية. وبطبيعة الحال، ستكون الصين أول المستفيدين من هذا الوضع، لأنّه سيُضعف قدرة واشنطن على التركيز على المواجهة معها. أما في حال انتهت الحرب الحالية بانتصار روسي، يترجم إذعاناً أوكرانياً لشروط موسكو، أو تقسيماً لهذا البلد، مع استمرار لحالة توتّر منخفض على حدود أوروبا، فإنّ مثل هذا الاحتمال سيضعف من وحدة المعسكر الغربي، ويفسح مجالاً للأصوات المطالبة بالتمايز عن واشنطن، ليس بالنسبة لكيفية التعامل مع روسيا فحسب، بل كذلك حول السياسة الأنجع حيال الصين. قبل الحرب الراهنة، طالبت أطراف أوروبية عديدة بعلاقات مع الصين وروسيا، على قاعدة تعظيم المصالح المشتركة، وليس استعدائهما. إذا فشلت الولايات المتحدة في أوكرانيا، فانّ ذلك سيعزّز من موقع بكين وموسكو في مقابلها. نقطة أخيرة كشفتها الحرب في أوكرانيا، وأشار إليها المعلّق الأميركي فريد زكريا، في «سي أن أن»، واعتبرها مؤشراً حاسماً على دخول العالم في حقبة ما بعد الهيمنة الأميركية، وهي رفض زعماء لبلدان تدور في فلك الولايات المتحدة، كالسعودية والإمارات، التحدّث هاتفياً مع رئيسها، وتمنّع دول حليفة لها، كالهند، والكيان الصهيوني في بداية الحرب، عن إدانة التدخّل الروسي في أوكرانيا. سعي الحلفاء للتمايز، وتجرّؤ أتباع على التمرّد، هو من علامات تراجع السطوة والسيطرة، وهو مسار قد يتسارع مع الحرب في أوكرانيا.