في إطار المساعي الجارية، بقيادة أميركية، لإيجاد مصدر بديل للغاز الروسي المورَّد إلى القارّة الأوروبية، يتقدّم مشروع خطّ تركيا - إسرائيل، والذي أخذ حيّزاً واسعاً من النقاش في زيارة إسحاق هرتزوغ الأخيرة لأنقرة. وعلى رغم تَعزُّز حظوظ هذا المشروع بشكل كبير، خصوصاً في ظلّ التزكية الأميركية لتجميد مشروع خطّ «إيستميد»، إلّا أنه من المستبعد أن يسهم في تعويض الغاز الروسي لأوروبا في حال قطعه؛ إذ لو اجتمع الحجم المنقول عبره مع ذلك المنقول عبر خطّ أذربيجان، لما تجاوز العشرين إلى ثلاثين مليار متر مكعّب، وهذا أقلّ بكثير من احتياجات القارّة العجوز
على الرغم من أن مباحثات الرئيس الإسرائيلي، إسحاق هرتزوغ، مع نظيره التركي، رجب طيب إردوغان، الأسبوع الماضي، تناولت مروحة واسعة من القضايا، إلّا أن التركيز كان منصبّاً بوضوح على مسألة الطاقة، أخذاً في الاعتبار المصلحة العملية لكلا الطرفين في ذلك، كأنْ تجد إسرائيل سوقاً للبيع وبكلفة زهيدة، وأن تستثمر تركيا في أنابيب الطاقة لمدّ اقتصادها بجرعة مالية، وتحسين علاقاتها مع واشنطن. يُضاف إلى ما تَقدّم أن العقوبات الغربية المفروضة على روسيا على خلفية الأزمة الأوكرانية، وتعريض حصول أوروبا على الغاز الروسي للخطر، فتحا الباب أمام البحث الجدّي عن مصادر بديلة للغاز، كما للنفط والفحم، حيث برزت تركيا كواحدة من الدول التي يمكن أن تلعب دوراً مهمّاً في هذا المجال. ويأتي هذا بعدما كانت الولايات المتحدة قد أعلنت، قبل بدء الحرب الروسية على أوكرانيا بأقلّ من شهرين، تخلّيها عن أيّ دعم يمكن أن تقدّمه لمشروع خطّ أنابيب «إيستميد»، الذي يلحظ نقل الغاز الإسرائيلي من حقوله في شرق المتوسّط إلى قبرص، فجزيرة كريت واليونان، ومن ثمّ إلى إيطاليا، فأوروبا، ويبلغ طوله ألفَي كيلومتر، وعمقه ثلاثة كيلومترات تحت سطح البحر، وكلفته ثمانية مليارات دولار، كما يستغرق حوالى سبع سنوات لإنهائه، ومن الممكن نقل عشرة مليارات متر مكعّب سنوياً عبره. وقد وقّعت إسرائيل واليونان وقبرص الجنوبية على الاتفاق في الثاني من كانون الثاني 2020، قبل أن تُوافق الحكومة الإسرائيلية برئاسة نفتالي بينيت عليه، في 19 تموز من العام نفسه. وإضافة إلى كلفته العالية - والتي يمكن أن تكون مضاعفة -، فقد جعل اتفاق تركيا وليبيا في 28 تشرين الثاني 2019 على ترسيمٍ مشترك لحدود المنطقة الاقتصادية الخالصة بينهما، البحر المتوسّط منقسماً بالخطّ التركي – الليبي إلى شطرَين، ما يعني أن «إيستميد» سيحتاج إلى إذن من تركيا، للسماح بمروره عبر المنطقة الاقتصادية الخالصة التابعة للأخيرة.
لكنّ الولايات المتحدة طوَت هذه المسألة، ليعود البحث من جديد إلى الممرّ التركي كخطّ أكثر جدوى من كلّ النواحي، ما جعل إردوغان يعتبر أن الأطراف وصلَت إلى قناعة مفادها أنه من دون تركيا لا يمكن فعل أيّ شيء في شرق المتوسط. وفي السياق، يرى الجنرال المتقاعد، جيم غوردينيز، المعروف باهتمامه الكبير بالمجال البحري التركي، أن انسحاب الولايات المتحدة من المشروع لم يكن مفاجئاً، محتملاً أن «إيستميد» كان في الأساس مشروعاً سياسياً يستهدف الضغط على تركيا لتخفيف موقفها من الصراع مع قبرص واليونان حول المناطق الاقتصادية الخالصة. ويبلغ حجم الغاز الطبيعي في شرق المتوسط حوالى ثمانية تريليونات متر مكعّب، فيما يصل حجم المخزون المقدَّر من الغاز الإسرائيلي إلى حوالى تريليون متر مكعّب ومليارَي برميل من النفط. ويقدّر حجم الغاز الإسرائيلي الذي يمكن استخراجه بحوالى 360 مليار متر مكعّب، ويمكن زيادته مع تقدّم الاستكشافات والاستخراجات. وأكبر حقول الغاز المتوقّعة في إسرائيل هو «ليفيتان»، وحجمه 580 مليار متر مكعّب. وقد عقدت تل أبيب اتفاقاً مع القاهرة لبيعها جزءاً من هذا الغاز. ولكن، مع اندلاع الأزمة الأوكرانية، بات مطروحاً بيع قسم منه لأوروبا، من خلال مدّ خطٍّ تحت البحر من إسرائيل إلى ميناء جيهان التركي، ومنه عبر أنابيب برّية تمرّ في تركيا ومنها إلى أوروبا.
يجد إردوغان في مشروع خطّ إسرائيل - تركيا فرصة لتحقيق مكاسب سياسية في الداخل التركي


ويقارب طول خطّ «ليفيتان» مع البرّ التركي، خمسمئة كيلومتر، أي ربع المسافة المقدّرة لـ«إيستميد». وبطبيعة الحال، فإن الكلفة في حال إنشاء الأوّل ستكون أقلّ بكثير، والمسافة أقرب، ووصول الغاز أسرع، كما أنّ الخطّ نفسه سيكون أكثر أمناً من ذلك المقترَح إلى اليونان وإيطاليا. وفي هذا الإطار، يرى الخبير التركي في شؤون الطاقة، فولكان أصلان أوغلو، أن «الخطّ المثالي لنقل الغاز الإسرائيلي إلى أوروبا هو عبر تركيا». ويلفت إلى أن «أقوى منتج للغاز في شرق المتوسّط هو إسرائيل، تليها قبرص الجنوبية»، معتبراً أنه «في حال اتّفقت تركيا مع إسرائيل، يمكن لهذه الأخيرة أن تهمل قبرص أو تجبرها على الانضمام إلى الاتفاق». وبحسب أصلان أوغلو، فإن تركيا «ستكون الرابح الأكبر، ولا سيما أن هذا الخطّ يعزّز دورها في شرق المتوسط، ويُسهم في إسقاط محاولات استبعادها من هذه الساحة». ويضيف الخبير التركي أن «الاستراتيجية الطويلة المدى لتركيا، هي أن تكون مركزاً للطاقة، الأمر الذي يجعلها كما لو أنها بلدٌ منتج للطاقة».
من جهة أخرى، ترى تركيا أن العقوبات على روسيا تجعل من إمكانية اعتمادها عليها بنسبة 34% من احتياجاتها من الغاز، موضع نقاش. كما تُدرك أن الغاز الذي تستورده من إيران يخضع، من وقت إلى آخر، للتوقّف لأسباب سياسية. لذا، فإن البحث عن بدائل للغاز الروسي يفيد أنقرة، لجهة تقليل ارتباطها بهذه المستوردات.
لكن، يبقى السؤال: هل يوفّر الخطّ التركي للغاز الإسرائيلي حلّاً لمشكلة الاعتماد الأوروبي على الغاز والنفط الروسيَّيْن؟ مع تجميد خطّ «نورد ستريم 2» من قِبَل ألمانيا، يبدو من الصعب التعويض عبر خطّ «نورد ستريم 1»، في وقت قصير، خصوصاً أن استخراج الغاز الطبيعي من مصادر أخرى أصعب من استخراج النفط. كما أن نقل الغاز المُسال عبر الحاويات، لا يمكن أن يعوّض النقص في الغاز الطبيعي، في حال قرّرت روسيا وقف إمداداتها لأوروبا، علماً أن مثل هذا الأمر يستلزم سنوات طويلة واستثمارات مكلفة. ومن هنا، تَظهر أهمية ممرّ الغاز الجنوبي الذي ينقل سنوياً من أذربيجان إلى أوروبا عبر تركيا، حوالى عشرة مليارات متر مكعّب. كما يوجد مخزون غاز في أذربيحان يقارب تريليونَين و600 مليار متر مكعّب، ويكفي أوروبا لمئة عام. وفي هذا الإطار، يقدّم نائب وزير الطاقة التركية، ألب أرسلان بيرقدار، حلولاً إضافية بديلة، مشيراً إلى أن غاز تركمانستان قد يساهم في حلّ المشكلة في أوروبا، بل يلفت إلى أن «خطّ الغاز الجنوبي لا يزال يعمل بأقلّ من نصف طاقته»، موضحاً أنه يمكن له أن ينقل 16 مليار متر مكعّب سنوياً.
وتستورد أوروبا 40% من احتياجاتها من الغاز للتدفئة والاستخدام الصناعي، أي حوالى 178 مليار متر مكعّب، من روسيا، فضلاً عن 25% من النفط. ويتوزّع استيراد القارّة ما تبقّى من حاجتها من هذه المادّة، كما يلي: 22% من النروج، و19% من الغاز المسال محلياً، و9% من الجزائر، و3% من أذربيجان، و1% من ليبيا. حتى الغاز المسال محلّياً توفّر روسيا منه 18%، والباقي 20% من الولايات المتحدة، ومثلها من قطر، و17% من نيجيريا، و14% من الجزائر، و2% من النروج، و9% من مصادر مختلفة. وفي لغة الأرقام، فإنه لو اجتمع حجم الغاز المنقول عبر خطّ أذربيجان وعبر خطّ إسرائيل – تركيا، لما تجاوز العشرين إلى ثلاثين مليار متر مكعّب، وهذا أقلّ بكثير من احتياجات أوروبا من الغاز الطبيعي.
مع ذلك، يقول بيرقدار إنه يجب تقييم زيارات الرئيس الإسرائيلي، إسحاق هرتزوغ، كما المستشار الألماني، أولاف شولتز، ورئيس الوزراء اليوناني، كرياكوس ميتسوتاكيس، لتركيا، من زاوية دور هذه الأخيرة في مجال الطاقة قبل أيّ شيء آخر. كما ترى الكاتبة مهدان صاغلام أن خطّ إسرائيل - تركيا يشكّل فرصة لدفْع عملية تطبيع العلاقات بين الجانبين، ومناسبة لإردوغان لتحقيق مكاسب سياسية في الداخل التركي، عبر مدّ الاقتصاد بجرعة إنعاش من الآن وصولاً إلى الانتخابات الرئاسية التركية، بعد عام وثلاثة أشهر. ويذهب محلّلون أتراك أبعد من ذلك في الترويج للخطّ الإسرائيلي، بالقول إن مثل هذا المشروع يمكن أن يشكّل دفعة لتسوية المشكلة القبرصية، كما يعزّز من حظوظ تركيا للانضمام إلى الاتحاد الأوروبي.