كما حذف «الصندوق الوطني للديمقراطية» (NED)، عن موقعه، بيانات تمويله في لبنان لعام 2018 عقب اندلاع تظاهرات تشرين الأول 2019، يحذف اليوم كل بيانات تمويله في أوكرانيا. لكن، بالاستعانة بمحرّك بحث المواقع المؤرشَفة Wayback Machine، كان بالإمكان استرجاع أغلب بيانات تمويل الصندوق في أوكرانيا بين عامَي 2014 و2021 (باستثناء بيانات 2017 التي يذكر تقرير في الكونغرس أنّ مجموعها بلغ نحو 4,7 ملايين دولار).وتكشف دراسة قاعدة بيانات (بيانات التمويل) مِنح NED أنّه صادق على حوالي 334 منحة مخصّصة لأوكرانيا التي صنّفها تقريره السنوي لعام 2019 بأنها دولة ذات «أولوية قصوى»، نظراً إلى حجمها وأهميتها لمنطقة أوروبا. يشير التقرير إلى أنّ NED يركّز على «مواجهة التأثير الخبيث الأجنبي (أي الروسي)، ولا سيما المعلومات المضلِّلة ورأس المال المدمّر». وبين عامَي 2017 و2021، خصّص NED لروسيا وحدها أكثر من 37 مليون دولار، إضافة إلى 22.4 مليون دولار لأوكرانيا.
عام 2013، تلقّت أوكرانيا منحاً من NED أكثر من أي دولة أخرى في أوروبا. زاد المبلغ المخصَّص للمنظمات غير الحكومية الأوكرانية عام 2014 بمقدار ضعف ونصف ضعف مقارنة بعام 2011. وفي عام 2011، كانت المنظّمات غير الحكومية الأوكرانية قد تلقّت حوالي 2.9 مليون دولار، أما في عام 2012 فبلغ التمويل حوالي 3.3 ملايين دولار، وفي عام 2013 حوالي 2.8 مليون دولار. وفي نمط متكرّر في أكثر من بلد، كما حصل على سبيل المثال في لبنان عام 2018، يشهد عام الانتخابات في البلد المستهدَف مضاعفةً لأرقام التمويل، فقد ضخّ NED عام 2014 ما يقارب 4.5 ملايين دولار، منها 2.1 مليون دولار خُصصت للانتخابات الرئاسية الأوكرانية في أيار 2014، والانتخابات البرلمانية المبكرة في تشرين الأول من العام نفسه. وإبّان ولاية دونالد ترامب (2017-2020) ظل المبلغ يُراوح سنوياً بين أكثر من 4 ملايين وما دون الـ 5 ملايين. وشهد العام الأول من ولاية جو بايدن الرئاسية - عام 2021 - نسبة التمويل الأعلى في تاريخ NED في أوكرانيا، بحوالي 5,906,636 دولاراً أميركياً (بيانات التمويل لعام 2021). أغلب هذه الأموال تمّ إنفاقها على «نشاط الشباب»، و«مراقبة وسائل الإعلام»، و«خلق وسائل إعلام لمنطقة الدونباس»، و«التقارير السياسية الموضوعية والمتوازنة حول الانتخابات».
يُراوح عدد الحاصلين على منح مالية من NED في أوكرانيا بين 65 و75 جهة سنوياً (مع استثناء عام 2014 الذي سجّل 87 منحة). أغلب هذه الجهات مكرَّرة في كل عام (كما في لبنان)، ولا تحصل على مبالغ كبيرة الحجم (بين 30 و80 ألف دولار)، لكنّ الهدف المعلَن، المُصاغ ببلاغة أدبية، لتمويل القطاعَين الأبرز (المساءلة والحوكمة، ودعم المجتمع المدني)، غالباً ما يهدف إلى تحقيق هدفَين اثنين: 1) الخصخصة المفرطة للشركات المملوكة للدولة الأوكرانية، 2) بناء أحزاب سياسية تمثّل مصالح النخبة الأميركية. وتظهِر قاعدة بيانات التمويل الخاصة بـ NED أن هناك هدفاً ثابتاً لدى واشنطن، هو بثّ دعاية مناهضة للرواية الروسية حول الوضع في الدونباس، عبر خلق وسائل إعلام وصحف وناشطين مدنيين، لا شغل لهم إلا استهداف روسيا ومحاولة خلق مناخ معادٍ لموسكو ونواياها تجاه أوكرانيا.
أقرّ NED أن المستفيدين من منحه لعبوا دوراً مهماً في احتجاجات كييف عامَي 2013 و2014


من أصل 22.4 مليون دولار بين عامَي 2017 و2021، منح NED أكثر من 2.9 مليون دولار لمركز المشاريع الدولية الخاصة -CIPE ، لغرض «إحداث التحول الاقتصادي» في أوكرانيا. تم توضيح نوع التحول الذي يريد مركز CIPE رؤيته على موقعه الإلكتروني، وهو ينص بشكل قاطع على أن «رأسمالية السوق الحرة والتجارة العالمية قد أسفرتا عن أكبر مكاسب اقتصادية في تاريخ البشرية»، وأنّ دور المركز هو «زيادة اختراق السوق الحرة حول العالم». إحدى المنح لـ CIPE بقيمة 500 ألف دولار كانت بعنوان: «تطوير اقتصاد السوق في أوكرانيا» – وذُكِر أنّ هدف المشروع هو «تعزيز دور جمعيات الأعمال الرائدة والقطاع الخاص في صنع القرار المتعلق بالسياسة العامة، وتحسين قدرة القطاع الخاص والمسؤولين على التعاون لتطوير وتنفيذ الإصلاحات الاقتصادية». بعبارة أخرى، الهدف هو تسليم عملية صنع القرار الحكومي الاقتصادي إلى الشركات الكبرى، أي تمزيق سيادة الدولة الأوكرانية على إقليمها (يموّل CIPE في لبنان برنامجاً بالشراكة مع جمعية الصناعيين هدفه «تضخيم صوت الشركات المصنّعة الصغيرة الحجم في عمليات صنع السياسات الوطنية»).
نفّذت حكومة ما بعد عام 2014 الأوكرانية، التي تم تنصيبها بعد «ثورة ميدان»، ما يصطلح الرأسماليون على تسميته بـ«العلاج بالصدمات الاقتصادية»، حيث باعت العديد من الأصول المملوكة للدولة، ضمن عملية تحويل أوكرانيا إلى أفقر دولة في أوروبا (بالتزامن مع ظهور طبقة من المليارديرات الجدد). لكن هذا لم يُشبع رغبات الولايات المتحدة، واستمرّت برعاية المزيد من عمليات الخصخصة، على غرار ما ساهمت بتنفيذه في روسيا في التسعينيات.
ذكر NED في تقريره السنوي عام 2015 أنّ المنح التي قدّمها لعبت دوراً مهماً في المرحلة الأولية لما سُمّي بـ «احتجاجات ميدان» في مدينة كييف في أوكرانيا عامَي 2013 و2014. وأشار التقرير إلى أنّ NED خصّص حوالي 14 مليون دولار لدعم المنظّمات الأوكرانية غير الحكومية لمدّة 4 سنوات (من عام 2011 إلى عام 2014)، وأنّ «معهد معلومات الجماهير» (Mass Media Institute) لعب دوراً نشطاً في أحداث «ميدان». كل هذا أدّى في النهاية إلى انقلاب أطاح بالرئيس الشرعي المنتخَب فيكتور يانوكوفيتش، وصعود دمية الأميركيين بيترو بوروشنكو إلى السلطة.
بلغت جرأة مديري NED حدّ الاعتراف بدورهم المباشر في الأحداث الأوكرانية آنذاك، عندما أوردوا في تقريرهم السنوي لعام 2015 الجملة التالية: «لعب المستفيدون من منحِنا أدواراً مهمّة في الاحتجاجات السلمية في كييف». طبعاً حينها، ظهرت سلمية المتظاهرين على شكل فؤوس وبلطات، ويشير التقرير إلى أن دوراً مهماً في الميدان لعبته وسائل الإعلام، التي كانت مدعومة مالياً من NED. بدأت أحداث «ميدان» في 21 تشرين الثاني عام 2013، في اليوم التالي أُعلِن عن تأسيس قناة اسمها Hromadske TV، إلى جانب قناتَين أخريين هما Spilno TV و Ecnpeco TV. أصبحت هذه القنوات الثلاث (المموَّلة من NED) الناطقة باسم «ثورة ميدان»، مركّزة بثّها تحريضاً على يانوكوفيتش وداعية الشعب للنزول إلى الساحات للإطاحة بحكمه (للبنان أيضاً حكاية مشابهة مع قنوات تلفزيونية ثلاث بعد 17 تشرين). وبحسب تقارير عام 2014، خصّص NED حوالي 115.8 ألف دولار لدورات للصحافيين الأوكرانيين، الذين زُوِّدوا في هذه الدورات بمعدات وقائية وأدوات إسعافات أولية، ما يشير إلى الاستعداد المسبق لأعمال الشغب والاشتباكات مع عناصر الشرطة الأوكرانية.