فاسيلي غولوبورودكو معلّم مدرسة اشتهر في فيديو انتشر على وسائل التواصل الاجتماعي ينتقد فيه الحكومة. بين المزح والجدّ وجد غولوبورودكو نفسه رئيساً لأوكرانيا، وكان شخصاً صادقاً لا يجيد الكذب أبداً. هذا هو الدور الذي أدّاه الممثل الكوميدي فولوديمير زيلينسكي قبل أن يقرّر أن يدخل عالم السياسة، في استعراضٍ ليلة رأس سنة 2019، أعلن فيه ترشّحه للانتخابات الرئاسية «حتة واحدة»، بالتزامن مع خطاب رأس السنة الرئاسي الذي يشكّل تقليداً سنوياً في أوكرانيا، كما في روسيا. في نيويورك يحتشدون لساعات في ساحة تايمز وسط مانهاتن، من دون حمّامات تكفي الحشود، لمشاهدة طابة ديسكو برّاقة تتدنّى على سطح أحد الأبنية في الثواني الأخيرة من العام. في لبنان، يتسمّر الشعب أمام شاشات تلفزة تتنافس على الشعوذة. في روسيا وأوكرانيا وعدد من الجمهوريات السوفياتية السابقة، يودّع الناس قديمهم ويستقبلون جديدهم بتلاوة سياسية شاملة لرئيس البلاد.استفاقت أوكرانيا من سكرة سهرة رأس السنة على مرشّح جديد تغييري إلى أبعد الحدود يتسلّق استطلاعات الرأي حول الانتخابات الرئاسية لعام 2019 المقرّرة إقامتها بعد أسابيع قليلة. إلى جانب زيلينسكي والرئيس الذي كان يخطب ليلة رأس السنة بيترو بوروشينكو، تقدّم تسعون مرشّحاً آخر للانتخابات، خاض منهم 39 الجولة الأولى بعض إقصاء نصف المرشحين تقريباً لعدم تسديدهم بدل الترشح. لن نفتح نقاشاً حول القوانين الانتخابية أو حول الإفراط في الديموقراطية، فهنيئاً لأوكرانيا والمعسكر الغربي قيادتهم المضحكة الفذّة. وبما أن الحروب يغلب عليها طابع الذكورية الـ«sauvage»، حاكت البروباغندا الروسية على مدى السنين أساطير كثيرة حول «رجولة» فلاديمير بوتين وإنجازاته الخيالية، لكن إنجازات فولوديمير زيلينسكي موثّقة بالبث التلفزيوني الحي والمباشر، ومنها عزفه على البيانو لمدة خمس دقائق متواصلة باستخدام عضوه التناسلي.
للأسف، قانون الانتخاب البرلماني النسبي مع الصوت التفضيلي في الدوائر الخمس عشرة اللبنانية لن يسمح لأشباه زيلينسكي اللبنانيين بالوصول إلى رئاسة الجمهورية وإن كانت الظروف مناسبة للمهرّجين. في الواقع لا أحد في لبنان متحمّس لإجراء الانتخابات النيابية في أيار إلا التهريجيون الذين إن اجتمعوا (ولن يجتمعوا) قد ينالون حاصلاً انتخابياً واحداً، أي ما يوازي نصف مخزومي. لكن ذلك لا يعني أن الخطاب الانتخابي التغييري الفارغ لا يشبه الخطاب الذي أتى بزيلينسكي. فتغييب السياسة عن الحياة السياسية من خلال الترويج لخطاب الحوكمة والحوققة وحوربة الفساد يجعل من العرس الديموقراطي استعراضاً ترفيهياً يأتيك بزيلينسكي مخلّصاً للعالم الحرّ، بينما تتحوّل بلاده إلى محجّة للنازية العالمية الآتية لتنتقم من جيشٍ أحمر هزم أجداد النازيين في الماضي، لكنه لم يعد موجوداً. في أوكرانيا، العمل السياسي الممنهج الوحيد الذي كان جارياً على قدم وساق في السنوات الأخيرة هو استئصال وحظر ما تبقّى من الشيوعية الموروثة عن السوفيات. في أوكرانيا، سلّموا أمنهم لطائرات الناتو الموعودة التي لم تحطّ أصلاً ليتمكّنوا من التسلّق على دواليبها هرباً كما حصل في مطار كابول. في أوكرانيا، خصخصوا ويخصخصون وسيخصخصون كل ما له قيمة في أراضيهم الشاسعة.
في لبنان، ثمّة تغييريّون ينتهجون أوكرانيا مثالاً، وكأن ذلك النهج لم يُنتهج هنا منذ مئة عام وعام. حان وقت التغيير فعلاً، لكن التغيير حتماً لن يكون على شاكلة المهرّج الأوكراني ولا من نسل تهريجيّي 17 تشرين.