في الوقت الذي كان فيه العالم مشغولاً بتحليل الحساب التاريخي الذي شنّ فلاديمير بوتين الحرب في أوكرانيا على أساسه، سقطت قراءة الجانب الأوكراني من الصورة، من زاوية الوهن الذي أصاب الجيش وبنية الدولة الأوكرانية التي كان يُفترض أن تكون قد ورثت جزءاً من القوّة العسكرية السوفياتية، وهي القوّة ذاتها التي استندت إليها روسيا، وأعادت بناء جيشها الذي بدا في اليوم الأول للحرب رشيق الحركة، كما لو أن جنوده يؤدّون رقصة باليه جماعية وهم ينتقلون من منشأة حيوية إلى أخرى، تحت تغطية نارية بدت هي الأخرى دقيقة ومتناسقة، بشكل لم نشهده، نوعاً على الأقلّ، لدى الجيوش الغربية، وتحديداً الجيش الأميركي. آخر حرب كبرى تصحّ مقارنتها مع حرب أوكرانيا، هي حرب إسقاط صدام حسين، باعتبار أن حروب يوغوسلافيا التي قورنت بها أوروبياً، هي في معظم جوانبها حروب عرقية وطائفية، أي أهلية، أو حملات جوية غربية. فجيش صدام حسين، على رغم أن نظام «البعث» كان متهالكاً ومعزولاً وساقطاً نظرياً، ما أفقد جنوده الحافزية للقتال، قاوم وصمد أكثر بكثير ممّا يفعل الجيش الأوكراني حالياً، ولم يسقط إلّا بعد وصول القوات الغازية إلى تخوم بغداد، وبعدما اختار القائد الهرب من ميدان القتال على أمل أن يقود مقاومة من مخبأ ما في تكريت، لولا أن وشى به بعض أقرب المقرّبين إليه. وحتى بعد ذلك، انتقلت قيادة المقاومة «البعثية» إلى نائبه عزت إبراهيم الدوري. وفي المحصّلة، دامت العمليات القتالية الرئيسية في تلك الحرب نحو 26 يوماً، بينما يبدو أن كييف التي وصل الروس إلى تخومها بعد ساعات من بدء الحرب، ستسقط بمجرد أن يأخذ بوتين قرار إطاحة نظام فولوديمير زيلينسكي. سير المعركة حتى الآن يفضح لَعِب النخبة الأوكرانية على الشعور القومي، الذي كان الرهان عليه لإذكاء روح المقاومة، فإذا بها تتحوّل إلى بازار للتجارة يُستخدم عالمياً وأوكرانياً لغرض تمدّد حلف «الناتو» والاتحاد الأوروبي إلى حدود روسيا بهدف تطويقها، مقابل مكاسب سياسية ومادية لفاسدي أوكرانيا. والأهمّ من ذلك أن ما حدث يوجّه ضربة قاصمة، نظراً الى حجم أوكرانيا، إلى سياسة استغلال القوميات في الدول الأوروبية الشرقية والجمهوريات السوفياتية السابقة من قِبَل «الناتو» لإخضاع روسيا، وهي سياسة مثّلت حرباً خفيّة كان قد بدأها الغرب مباشرة بعد انهيار الاتحاد السوفياتي، على اعتبار أن إسقاط ما عُرف بالكتلة الشرقية لن يصبح ناجزاً إلّا بتحقيق هذا الهدف. لم يكن المراقب بحاجة إلى كثير عناء ليلحظ الانهيار المعنوي لدى الأوكرانيين، والذي تراكم قبل الهجوم، ليتحوّل إلى هزيمة نفسية مُحقّقة لحظة بدء الحرب، خاصة وهم يشاهدون الحلفاء في أميركا وأوروبا يتنافسون على تخمين الساعة الصفر للهجوم الروسي، مشفوعاً بالإعلان سلفاً عن عدم الرغبة بالدخول في أيّ حرب مع موسكو، والتأكيد على عدم القدرة على مقاطعة النفط الروسي، في ظلّ ارتفاعات في أسعار الوقود قد تأخذ العالم إلى ركود جديد وتطيح حكومات في العالم الغربي. بالنتيجة، سلّم الغرب مبكراً بالهزيمة، وشجّع الأوكرانيين على خيار «الهريبة».
سير المعركة حتى الآن يفضح لَعِب النخبة الأوكرانية على الشعور القومي الذي صار بازاراً للتجارة


زد على ذلك، أن رئيس الوزراء «القومي المتشدّد»، زيلينسكي، وعندما لم يلبِّ أحد من الأوكرانيين دعوته إلى حمل السلاح والمقاومة، أقام حفلة نواح على نفسه وعائلته، عندما تحدّث عن أن موسكو عيّنته الهدف الرقم 1 لهجومها، وعائلته الهدف الرقم 2، مُقدِّماً أمنه الشخصي وأمن عائلته على أمن البلد، ما استدعى عروضاً غربية عليه للجوء السياسي، لا تنسحب على الأرجح على مواطنيه العاديين الذين تدفّقوا بقوافل السيارات إلى الحدود الأوروبية من الجهة الأخرى، نحو بولندا ورومانيا ومولدوفا وسلوفاكيا والمجر، والتي سبق أن أوصدت أبوابها أمام الفارّين من الحروب في الشرق الأوسط، أو المجاعات في أفريقيا. أمّا لماذا غابت روح المقاومة إلى هذا الحدّ؟ فالجواب قد يكون أن لا أحد من الأوكرانيين، ولا حتى في القوات النظامية، يرغب في الموت من أجل مجموعة من الفاسدين الذين ارتبطت مصالحهم بالغرب، حتى لو جاء هؤلاء في انتخابات ديموقراطية سبقها الغرب بدعاية طاغية تغري الأوكرانيين بنعيم الانضمام إلى «الناتو» والاتحاد الأوروبي، وهي دعاية خبيثة أخفت الأهداف الحقيقية من وراء العرض السخيّ، والأهم أنها تكتّمت على مكامن التفجير التي ينطوي عليها هذا الانضمام، وخاصة أن أجزاء أساسية من البلد عبارة عن هدايا سوفياتية كان قد قدّمها الزعماء السوفيات المتعاقبون لأوكرانيا، إرضاءً للقوميين، ما يجعله فعلياً يوغوسلافيا مقلوبة، وهو ما لا يمكن للواهب، أي موسكو، أن تَقبل به، ليُستخدم ضدّها.
أوكرانيا، بحسب استطلاع للخبراء أجرته شركة «إرنست إند يونغ» عام 2017، تُعدّ تاسع أكثر الدول فساداً في العالم. وهذا الفساد هو ما أتاح للولايات المتحدة وبريطانيا خاصة استخدامها ضدّ روسيا. فحتى خطّ الأنابيب الذي ينقل الغاز الروسي إلى ألمانيا وباقي أوروبا عبر أوكرانيا، والذي كان يُفترض أن تتعامل معه كييف كهِبة من السماء، نظراً إلى فائدته الاقتصادية التي تتمنّاها دول كثيرة، حوّله فاسدو ذلك البلد إلى مصدر لابتزاز روسيا وألمانيا معاً، وجعلوه نهباً للصوص الذين كانوا يسرقون جزءاً من تلك الإمدادات، ما حدا بالأخيرتين إلى استبداله بخطّ أنابيب «السيل الشمالي 2» الذي اضطرّت ألمانيا من دون اقتناع، وتحت ضغط أميركي، إلى التخلّي عنه مؤقّتاً. كان يمكن لفاسدي أوكرانيا، أيضاً، إسقاط جو بايدن في الانتخابات الرئاسية عام 2020، لولا أن الأسباب التي دفعت بالأميركيين إلى التخلّص من دونالد ترامب، كانت أكبر. لكن ما فشل فيه الرئيس السابق حين حاول استغلال شبهة تورُّط هانتر بايدن، نجل بايدن، في قضية فساد أوكرانية، قد ينجح فيه إذا ما تنافس الرجلان في الانتخابات المقبلة عام 2024، فهو يملك هذه المرّة ذخيرة أكبر بدأ باستغلالها منذ الآن، حين أشاد باعتراف بوتين باستقلال الدونباس، واصفاً ذلك بأنه عمل «عبقري»، لكنه رأى أن هذه الأزمة ما كانت لتحدُث أبداً في ظلّ إدارته الجمهورية. لقد بدا جو «نعساناً» بالفعل في تعامله مع حرب أوكرانيا.