وقع الهجوم الروسي على أوكرانيا، في الوقت الذي لا تبدو فيه تركيا في موقع تُحسد عليه لجهة «المسافة الواحدة» مع موسكو والغرب. لم تتأخّر أنقرة في إدانة العملية الروسية على لسان جميع المسؤولين الموالين كما المعارضة، فيما اضطرَّت الأزمة الرئيس التركي، رجب طيب إردوغان، إلى قطع جولته الأفريقية، والعودة على وجه السرعة إلى بلاده لمتابعة التطوّرات، والمشاركة في قمّة لـ«حلف شمال الأطلسي». وكتب إردوغان، في تغريدة على «تويتر»، أن «العملية الروسية غير مقبولة، وهي تنتهك القانون الدولي. العملية تشكّل ضربة قوية للسلام والأمن الدوليَّيْن». وخلال استقباله وفد «اتحاد الديموقراطيين الدولي»، قال إردوغان: «إنّنا نواجه بحزن شديد ما جرى بين بلدَين صديقَين لتركيا، ولنا معهما علاقات قوية سياسية واقتصادية واجتماعية». وأضاف أن «تركيا تدعم وحدة الأراضي الأوكرانية»، داعياً إلى «حلّ المشكلات بين البلدَين عن طريق تطبيق اتفاقيات مينسك». وكما اعتبر الرئيس الروسي، فلاديمير بوتين، أن «أوكرانيا هي صنيعة الطرف الروسي، وكانت جزءاً من التاريخ الروسي»، أشار إردوغان إلى أن «الدولة العثمانية كانت منذ القرن الأول لتأسيسها دولة أوروبية، وأن عدداً كبيراً من الدول الحالية في أوروبا كانت جزءاً من الدولة العثمانية»، مضيفاً أنه «لا يمكن لأحد أن يستبعد تركيا من أوروبا وأن يضعها في الطرف المقابل». وردّ الرئيس التركي على أسئلة لصحيفة «يني شفق» بالقول: «إن اتّخاذ تركيا موقفاً حاسماً في هذه اللحظات الانفعالية أمر خاطئ. يجب أن نتصرّف بدقّة وحساسية عالية. نحن عضو في حلف شمال الأطلسي، ولكنّنا على علاقات متطوّرة مع أوكرانيا وروسيا». وتابع: «إننا لا يمكن أن نكون إلى جانب طرف دون آخر. يقولون لنا تخلّوا عن أوكرانيا، لا لن نتخلّى. ويقولون لنا تخلّوا عن روسيا، لا لن نتخلّى. السيناريو الأفضل لتركيا هو أن يتّفق البلدان».كذلك، اجتمعت أحزاب البرلمان الرئيسة، وأصدرت بياناً مشتركاً رأى في الهجوم الروسي «خطوة غير صائبة»، داعياً إلى الحفاظ على وحدة الأراضي الأوكرانية. وندّد «حزب الشعوب الديموقراطي» الكردي بالعملية، فيما شجب «حزب الحركة القومية»، شريك إردوغان في السلطة، الدول الغربية لأنها «تستخدم الأزمة الأوكرانية لابتزاز خصومها». أمّا مرال آقشينير، زعيمة «الحزب الجيّد» المعارض، فدعت إلى عودة تركيا إلى محورها القديم الأوروبي، و«التحرُّر من العلاقات» مع موسكو، عبر إلغاء صفقة صواريخ «إس 400»، وهو ما أثنى عليه مثلاً الكاتب المعروف، طه آقيول، في صحيفة «قرار». من جهة أخرى، دعا بعض النوّاب إلى حماية المواطنين الأتراك في أوكرانيا عبر التواصل معهم، علماً أن عدد هؤلاء يقارب 15 ألفاً. وجاء هذا بينما انعكس الهجوم الروسي اهتزازاً للأسواق المالية في تركيا، حيث تراجع سعر صرف الليرة حوالي ليرة واحدة، ليصل سعر صرف الدولار إلى أكثر من 14 ليرة. كذلك، تتخوّف تركيا من انعكاس ارتفاع أسعار النفط والغاز الطبيعي عليها، كونها تستورد تقريباً كامل احتياجاتها من الخارج، ولا سيما من روسيا وإيران. كما يتهدّد أنقرة خطرُ خسارة السوق الأوكرانية كأكبر سوق مستورِدة للطائرات التركية المُسيّرة.
اجتمعت أحزاب البرلمان الرئيسة، وأصدرت بياناً مشتركاً رأى في الهجوم الروسي «خطوة غير صائبة»


الأسوأ من ذلك هو أن أنقرة تواجه تحدّياً جديداً متمثّلاً في طلب السفير الأوكراني لديها، فاسيل بودنار، من تركيا، منع مرور السفن الحربية الروسية في المضائق، وفقاً للبند 19 من «اتفاقية مونترو للمضائق» عام 1936، والتي تقول بوجوب إغلاق المضائق أمام سفن أيّ دولة في البحر الأسود تكون في حالة حرب مع دولة أخرى. وفي أعقاب هذا الطلب، أعلن الناطق باسم الحكومة التركية، عمر تشيليك، أن الحكومة ستفي بالتزاماتها وفقاً لأحكام الاتفاقية، لافتاً إلى أنه يتمّ تقييم الأمر من جوانبه القانونية والديبلوماسية. وأضاف أن بلاده تعمل على الاستعداد لكلّ السيناريوات المحتملة، وخصوصاً الأمن في البحر الأسود. وجدّد انتقاد الهجوم الروسي، محذّراً من أنه «ستَنتج منه تداعيات خطيرة جدّاً على الصعيد القانوني الدولي». لكنّ وزير الخارجية التركي، مولود تشاووش أوغلو، عاد ليقول إن «أحكام مونترو واضحة جدّاً؛ في حالة عدم كون تركيا طرفاً في حرب، فإن بإمكانها اتّخاذ إجراءات تجاه أيّ دولة في البحر الأسود هي طرف في حرب. الآن هل ما يجري في أوكرانيا حالة حرب أم لا؟ هذا ما يعكف على دراسته خبراؤنا. إذا كانت حالة حرب، يمكن أن نمنع السفن من المرور، لكنّ هناك بنداً آخر يقول إن أيّ دولة في البحر الأسود تقدّم طلباً لعودة سفنها الحربية خارج البحر الأسود إلى قواعدها، يتمّ السماح لها بذلك».
وفي تعليقات الكتّاب، قال سليمان سيفي أوزغون، في صحيفة «يني شفق» الموالية، إن «أوكرانيا سقطت»، ولم يَعُد في إمكان الغرب وأوروبا فعل أيّ شيء. واعتبر أن «روسيا رسّخت هيمنتها في أوكرانيا وشرق أوروبا غرباً، وفي كازاخستان وتتارستان شرقاً، فيما الاتحاد الأوروبي وحلف شمال الأطلسي منهاران». وأضاف أن الرئيس الأميركي، جو بايدن، «فشل حرفياً»، وأن المسألة الآن هي كيف ستكون الولايات المتحدة بعد بايدن. من جهته، رأى سلجوق طاق يلماز، في الصحيفة نفسها، أن تركيا لا يمكن أن تعتمد على الغرب ولا أن تثق بروسيا، متابعاً أن مُضيّ بلاده في «الطريق الثالث» هو الذي يزيد من قوّتها ويحمي وحدة أراضيها. وأشار إلى أن «روسيا بغزو أوكرانيا استفادت من قوّة جغرافيّتها عبر التاريخ، ونحن أيضاً يمكننا الاستفادة من قوة جغرافيّتنا. لقد انتهى عصر الاعتماد على الغرب». وفي صحيفة «جمهورييات»، كتب محمد علي غولر أن روسيا بغزوها أوكرانيا أوقفت توسّع «حلف شمال الأطلسي»، وكبحت بعض مظاهر الهيمنة العالمية، وتعمل على إنشاء أوضاع عالمية جديدة. وعدّ ما فعلته «انتصاراً للسود (روسيا) على البيض (أميركا) في لعبة الشطرنج». وحذّر غولر من الأفخاخ التي يمكن أن تنصبها واشنطن لكلّ من موسكو وأنقرة، حيث «تشكّل الأزمة الأوكرانية قاعدة مناسبة لتلك الأفخاخ. وهذه هي المسألة الأساسية التي يجب أن تتنبّه لها تركيا». وانتقد السلطة كما المعارضة التركيتَين لجهة إدانة الهجوم الروسي، واصفاً ذلك بأنه «مؤشّر محزن» إلى إمكانية الوقوع في الأفخاخ الأميركية.
من جهته، يرى وصال حسن زاده، في «جمهورييات»، أن «الأزمة الأوكرانية تمثّل فرصة أمام تركيا لكي تهتمّ أكثر بتشكيل تحالف الجمهوريات التركية». ويلفت إلى أن «تركيا تحتلّ موقعاً مركزياً في السياسة الخارجية لروسيا»، معتبراً أن «على أنقرة أن تحتفظ بهذه العلاقات القوية، على أن يكون خيارها الأول لاحقاً تشكيل تحالف الجمهوريات التركية». ويعرب يوسف ضيا جومرت، في صحيفة «قرار»، بدوره، عن اعتقاده بأن «الحرب الأوكرانية، ولو لم تدخلها تركيا فإنها تُتعبها. فالليرة تجاوزت الأربعة عشر مقابل الدولار، وأزمة قمح تلوح في أفق البلاد، والسياحة ستتراجع والتضخّم الاقتصادي سيرتفع». وفي الاتّجاه نفسه، يشدّد أحمد طاش غيتيرين، في الصحيفة نفسها، على أن «تركيا وإن كان قلبها مع أوكرانيا، يجب ألّا تقطع علاقاتها مع موسكو، لكن عليها أن تَخرج بأقلّ قدر ممكن من الخسائر من هذه الحرب»، مضيفاً أن «هذا ما يقلق تركيا أكثر من غيره». وكتب محمد متينير، في صحيفة «يني شفق» الموالية، من جانبه، أن «على تركيا أن تأخذ مكانها في لعبة التاريخ هذه، وفي مرحلة عدم اليقين الراهنة»، منبّهاً إلى أن «أيّ خطوة ناقصة قد تضع البلاد أمام رغبة بايدن في إنهاء حُكم إردوغان»، مضيفاً أن «على تركيا أن تدرك أن الولايات المتحدة عدو، وكذلك الاتحاد الأوروبي. والحرب الأوكرانية ليست حربنا. ولا يجب كوننا عضواً في حلف شمال الأطلسي أن نخدم المصالح السياسية للولايات المتحدة». وأشار متينير إلى أنه «إذا تصاعدت الحرب فسيصاب الاقتصاد التركي بالشلل، وتتدمّر السياحة، ولا ننسى العواقب السياسية الداخلية». ومن هنا، يختم بأنه «يجب عدم الوقوع في لعبة بايدن في قتل عصفورَين بحجر واحد، لأن انخراط تركيا في هذا الصراع هو جزء من خطّة بايدن ضدّ بوتين وضدّ إردوغان. لكن أيضاً يجب ألّا نتخلّى عن دفاعنا عن وحدة أراضي أوكرانيا، والذي بدأ برفض ضمّ شبه جزيرة القرم سابقاً إلى روسيا».