لندن | ألمحت جهات أميركية إلى أن ما يصل إلى خمسة ملايين لاجئ قد يفرّون من أوكرانيا نحو قلب القارة الأوروبية. ومن الجليّ أن مجمل القوات الأميركية المتمركزة في بولندا - والتي يبلغ قوامها 5500 جندي - منهمكة منذ أسابيع في العمل مع سلطات وارسو على بناء قدرة استيعاب استثنائيّة لموجة ضخمة من اللاجئين، يبدو أن الأميركيين، وبالتعاون مع الأوروبيين، يسعون لاستقطابها بغرض خلق معضلة لروسيا التي اندفعت قواتها داخل الأراضي الأوكرانية بداية من مساء الخميس الماضي. وقال الناطق باسم الجيش الأميركي إن القوات المتمركزة في بولندا تأخذ مواقع لها على طول الحدود بين بولندا وأوكرانيا للمساعدة في توفير الحماية والمساعدة لفارّين من التقدم الروسي السريع شرقيّ البلاد. وقد جهزّت هذه القوات، بالتعاون مع الجيش البولندي، ما لا يقلّ عن ثمانية مراكز للتعامل مع عشرات آلاف الأشخاص الذين قد يتدفّقون من أوكرانيا المجاورة، وتجهيزهم للانتقال إلى مواقع إيواء داخل البلاد بحسب الحاجة. كما وُضعت أكثر من ألف مستشفى في حال طوارئ، وعُلّقت كلّ الشروط الصحيّة المتعلقة بـ"كوفيد 19". وتبدي حكومة وارسو، من جهتها، حماسة غير مسبوقة تجاه اللاجئين الأوكرانيين، إذ أعلنت على لسان ماريوش كامينسكي، وزير داخليتها، أنها "على كامل الاستعداد لتوفير المأوى لأي شخص يفر من الصراع نحوها"، و"أن الحدود ستظل مفتوحة بشكل كامل"، مشيراً إلى أن "بلاده تستعد منذ عدة أسابيع لموجة من اللاجئين قد تحدث. وسنبذل كل ما في وسعنا لتوفير مأوى آمن في بولندا لكل من يحتاج إليه".وأثارت تصريحات الوزير البولنديّ سخريّة المراقبين، الذين قارنوا سلوك بلاده الحالي بالأزمة الحدودية الأخيرة لبولندا مع بيلاروسيا، والتي كادت تؤدي إلى نشوب حرب بين البلدين، بعد أن حاول أقل من 25 ألف لاجئ، أغلبهم من الشرق الأوسط، العبور نحو أوروبا مروراً بالأراضي البولنديّة، وتصدت لهم وقتها قوات الجيش ومتطرفون يمينيون وأبعدوهم بالقوّة. ومن الواضح أن عرق اللاجئين وديانتهم يلعبان دوراً في ذلك؛ فالأوكرانيون من ذوي البشرة البيضاء ومسيحيّون غالباً، وهناك بالفعل جالية أوكرانية ضخمة مقيمة في البلاد منذ انقلاب 2014 يُقدر عددها بمليون شخص. لكن الأصابع الأميركية ظاهرة هذه المرّة، وهناك تسابق لدى حكومات "حلف وارسو" السابق على إرضاء الولايات المتحدة عبر استقبال ملايين اللاجئين ليكونوا كورقة ضغط في يد "الناتو" ضدّ موسكو، تماماً على غرار ما حدث خلال الحرب في سوريا في العقد الماضي، عندما سهلّت دول عدة عبور اللاجئين السوريين إليها وعبرها لخلق معضلة سكانيّة لا يسهل حلّها من قبل دمشق.
وإذا نجحت الخطط الأميركية بهذا الشأن، فإن هذه الموجة التي ينبغي لأوروبا استيعابها ستجعل من أزمة الهجرة نحو القارة في 2015 مجرّد نزهة. وكانت تلك الموجة التي شملت حوالي مليون لاجئ قد تركت تأثيراً عميقاً على الأوضاع السياسية والاجتماعية في العديد من المجتمعات الأوروبية، وعززت من صعود الأحزاب اليمينية المتطرفة فيها. ويتحدّث مسؤولون أميركيون الآن عن خمسة ملايين لاجئ أوكراني (من أصل 44 مليوناً، هم عدد سكان أوكرانيا)، لا شك أن كثيرين منهم لن يكتفوا بالبقاء في دول شرقي أوروبا الفقيرة، وسيحاولون الانتقال نحو الغرب، إلى ألمانيا والنمسا وفرنسا وهولندا وبريطانيا وغيرها من الدول الثريّة. ويتمتع الأوكرانيّون بحق الإقامة لـ90 يوماً بلا تأشيرة في دول الاتحاد الأوروبي. ولكن ازدواجية المعايير الأوروبية ستنكشف سريعاً من دون شك، عندما يسرع لاجئون إلى أوكرانيا من الشرق الأوسط وآسيا بالعبور نحو الغرب، حيث سيواجه هؤلاء معاملة مختلفة، وعلى الأغلب لن يُسمح لهم باستكمال رحلتهم.
هناك تسابق لدى حكومات "حلف وارسو" السابق على إرضاء الولايات المتحدة عبر استقبال ملايين اللاجئين


ومع أن عدداً من الأوكرانيين قد فرّوا بالفعل من بلادهم عبر منافذ بريّة خلال الأيّام القليلة الماضية نحو بولندا وهنغاريا وثلاث دول أوروبيّة أخرى لها حدود مع أوكرانيا – سلوفاكيا ورومانيا ومولدوفا -، إلا أن الأرقام لا تزال إلى الآن محدودة، وتتعلق غالباً بأشخاص وعائلات يعبرون على الأقدام، فيما قدّرت مصادر في الأمم المتحدة أن أكثر من مئة ألف شخص قد تركوا منازلهم وفرّوا إلى مناطق أخرى داخل أوكرانيا الشاسعة. وعلى رغم وقوع ضحايا بين المدنيين الأوكرانيين نتيجة العملية العسكرية الروسية، إلا أن أغلب السكان يترقبون تطورات الأوضاع. وليست هناك إلى الآن تقارير بوقوع أيّ استهدافات مباشرة للمدنيين، حيث نفذت القوات الروسية عمليات دقيقة ضدّ مؤسسات ومواقع عسكرية ولوجستية فحسب. لكن عديدين قد يفرّون لتجنب تجنيدهم في الجيش الأوكراني ودفعهم إلى القتال.
هنغاريا، من جانبها، قالت إنها "مستعدة لاستقبال اللاجئين من أوكرانيا". وعبرت عدّة سيارات أوكرانية تقلّ مدنيين الحدود، فضلاً عن مشاة يجرّون حقائبهم. واستكمل بعضهم رحلته إلى رومانيا. كما قال مسؤولو الحدود السلوفاكيون إن سيارات أوكرانية خلقت أزمة عبور غير مسبوقة على نقاط الحدود، واضطر بعضها للانتظار لأكثر من 12 ساعة، وذلك بعد تصريحات من إدوارد هيغر، رئيس الوزراء السلوفاكي، قال فيها إن بلاده أيضاً مستعدة لاستقبال اللاجئين الأوكرانيين - على رغم أنها كانت منعت غير المسيحيين بالعبور إليها في 2015 -. وتجهّز سلطات هذا البلد مواقع استقبال للتعامل مع عدد كبير من اللاجئين. وعرضت جمهورية التشيك - التي لا حدود بريّة لها مع أوكرانيا -، أيضاً، المساعدة في استيعاب اللاجئين، تماماً كما فعلت بلغاريا. وعرضت ألمانيا، بدورها، تقديم مساعدات إنسانية إلى البلدان المتاخمة لأوكرانيا، لكن وسائل الإعلام في البلاد شرعت بتجهيز المواطنين الألمان لتوقع فرار ما بين 200 ألف ومليون شخص من أوكرانيا نحو قلب أوروبا. وكانت ألمانيا قد استوعبت أكثر من نصف اللاجئين الذين فروا إلى البر الأوروبي في 2015.
وفي بريطانيا، النقطة الأبعد أوروبياً من الحدود الأوكرانية، حثت منظمات غير حكومية من بينها الفرع المحلي لـ"منظمة العفو الدولية"، في رسائل مفتوحة نشرتها صحف لندن، السلطات على استقبال آلاف اللاجئين من أوكرانيا، ولعب دور فاعل في توفير الملاذ الآمن لهم، وتعديل قوانين الجنسيّة والحدود الحاليّة لتمكين انتقالهم إليها من دون مواجهة عقوبات. وكانت بريطانيا قد شدّدت، بعد خروجها من عضوية الاتحاد الأوروبي، من ترسانة قوانين الجنسية والحدود المعتمدة، لتُجرّم الوصول إلى البلاد بوسائل غير مشروعة، وتفرض عقوبات تصل إلى السجن المؤبد على الأشخاص الذين قد يسهلون الدخول غير القانوني إليها، الأمر الذي قد يجعل مسألة وصول لاجئين من أوكرانيا أمراً في غاية الصعوبة والتعقيد، ومحدوداً بالأشخاص الذين تقطن عائلاتهم بالفعل في المملكة المتحدة. وقال متحدّث باسم وزارة الداخلية البريطانية إن أولويتها الحالية هي استيعاب الرعايا البريطانيين العائدين من مناطق الصراع، إلا أنها ستعمل مع الشركاء الدوليين حول عدة مسائل، من بينها قضية الهجرة مع تطور الأوضاع على الأرض. وقالت مصادر مطلّعة على نيّات الحكومة البريطانية للإعلام، إن هنالك توجهاً لبناء سيناريوات قد تتضمن استيعاب عدد أكبر من اللاجئين على نسق ما حدث وقت حرب تفتيت يوغسلافيا وغزو العراق والأزمة السورية. ولا يستبعد أن الجانب الأميركي يمارس ضغوطاً على لندن في هذا الاتجاه.
ولعلّ الخبرة التي اكتسبتها روسيا خلال الأزمة السورية بشأن سلاح اللاجئين الذي يشهره الغرب كجزء من منظومة الحرب الهجينة، قد تعني أن إجراءات ستُتخذ سريعاً من قبلها لحسم المعركة في أوكرانيا، ومن ثمّ إغلاق المنافذ البريّة لمنع حدوث تدفقات غير معتادة للسكان عبر الحدود. ولكن الأمور ما زالت إلى الآن مفتوحة على كلّ الاحتمالات، وحتماً سيجد كثير من الأوكرانيين، بفضل جهود "الناتو"، الفرصة متاحة أمامهم بشكل استثنائي للهجرة من الشرق نحو دول الشمال الغنية.