للمرّة الأولى منذ انهيار الاتحاد السوفياتي، تفقد الولايات المتحدة الأميركيّة السيطرة على مقدّرات العالم. تعوّدت أميركا منذ ذلك التاريخ على السيطرة على العالم وعلى إملاء إرادتها بالقوة أو بالتهديد أو بالحسنى على كل دول العالم. لم تكن روسيا ولا الصين في موقع المعارضة لا بل شاركت الدولتان في إرساء معالم نظام عالمي جديد تتحكّم فيه الولايات المتحدة. لم تتوقّف أميركا عن شن الحروب مباشرة أو مداورة في كل العالم. هناك حروب تشارك فيها أميركا من دون إعلانات رسميّة ولا تدري بها من المتابعة اليوميّة للإعلام الغربي أو العربي. أميركا دمّرت الصومال وتمعن في تدمير عدد من الدول باسم محاربة الإرهاب. أحياناً تحارب أميركا بالوكالة وأحياناً بجيوشها المنتشرة. اليوم، أدركت أميركا أن مرحلة جديدة قد بدأت. إن المشكلة ليست في العراق ولا في أفغانستان ولا في مالي. المشكلة أن دولاً شبه كبرى، مثل الصين وروسيا، لم تعد تسمح بالاستمرار في نظام عالمي أميركي. هذه مرحلة بالغة الخطورة في حياة الإمبراطوريّة الأميركيّة لأن الحكومات الأميركيّة المتعاقبة عملت على تجنّبها. أن يشنّ بوتين حرباً على دولة متحالفة مع أميركا هي من الممنوعات. يستطيع بوتين أن يهدّد وأن يرفع الصوت، لكن أن يشنّ حرباً بعد تهديدات ووعيد أميركي من خلال الصحافة الأميركيّة المُطيعة دليل على أن روسيا باتت اليوم في مرتبة من فرض النفوذ: أقلّ من مرتبة الاتحاد السوفياتي لكن حتماً أعلى من مرتبة روسيا قبل 2014. ليست هذه الأزمة وهذه الحرب إلا وليدة جرائم وأفعال أميركا المتفلّتة حول العالم. هذه مرحلة تتطلّب وقف التعاون في الحروب الأميركيّة الجارية باسم مكافحة الإرهاب. هذه حروب لفرض السيطرة الأميركيّة، وأميركا ترعى أنظمة ومنظمّات إرهابيّة.خطاب بوتين الشامل عن أوكرانيا أدخل العالم في حقبة جديدة تؤرّخ لنهاية ما بعد الحرب الباردة. من المُبكِّر القطع بأن العالم دخل في منافسة جديدة بين جبّاريْن، لكن شحن الإعلام الأميركي (الليبرالي في معظمه) يشير إلى حالة ذعر تسود العاصمة واشنطن بسبب تقلّص السيطرة الأميركيّة العالميّة. بالرغم من وصف الجنون الذي أسبغه الإعلام الليبرالي على ترامب، فإن حقبة بايدن سرعان ما زادت من منسوب التوتّر العالمي. كان الإعلام الليبرالي وشبكة السياسة الخارجيّة المتنفّذة في واشنطن تثور على ترامب كلّما أعلن نيّته تخفيف التوتر مع بوتين ومع رئيس الصين، جي. التوتّر العالمي وإعلان العداء ضد الصين وروسيا باتا من مستلزمات السياسة الخارجيّة الأميركيّة. الانسحاب الأميركي من أفغانستان أقلقَ المتنفّذين (من الحزبيْن) في واشنطن وسارع حلفاء أميركا من الطغاة في الخليج إلى إبداء القلق من انكفاء أو تراجع أميركي، في وقت لا تزال القوّات الأميركيّة منتشرة في أكثر من 800 قاعدة عسكريّة أميركيّة حول العالم (هذا فقط التعداد الرسمي للقواعد والرقم لا يشمل قواعد سريّة في كل أنحاء الكرة الأرضيّة). إن تحالف السعوديّة والبحرين والإمارات مع إسرائيل هو نتيجة خيبة من هذه الدول (العروبيّة، كما يصفها لنا السنيورة وجعجع والجميّل) من تمنّع أميركي عن شنّ المزيد من الحروب. أميركا لم تُصب فجأة بداء اللا عنف. لا، أميركا أصيبت في الهزيمة في العراق وفي أفغانستان ولم يعد شعبها في وارد تأييد المزيد من الحروب الخاسرة، ولو إرضاء لطغاة محترمين في الخليج. الحروب والالتزامات العسكريّة الأميركيّة أفقرت الطبقة الوسطى هنا وزادت من الأعباء الماليّة للفقراء.
لم يمضِ على بايدن في البيت الأبيض أكثر من أشهر قبل أن يحضّ على تمرير قانون إنفاق هائل بقيمة 200 مليار دولار. القانون الذي مرَّ في مجلس الشيوخ بإجماع لم يخالفه إلا برني ساندرز، الذي صوَّت ضدّه. القانون له اسم «الإبداع والمنافسة الأميركيّة» يهدف إلى مواجهة النفوذ الصيني على أكثر من صعيد. طبعاً، القانون تحدّث عن أجيال أميركيّة جديدة وعن دفع التنافسيّة الأميركيّة قدماً. وقانون بهذا الاسم لا يخفي مضامين عسكريّة وأمنيّة واستخباراتيّة فيه. هذه دولة تسنّ قانوناً لشنّ حرب في بلد ما باسم: «قانون عتق الشعوب». معظم التخطيط والإنفاق الأميركي العسكري والاستخباراتي مُوجَّه نحو الصين لكن العداء لروسيا لم يخفت أبداً. توماس فريدمان ـــــ أشمئزّ من الاستشهاد به بسبب ضحالة فكره وعنصريّة تعبيراته ونفاقه وصهيونيّته ـــــ خالفَ الإجماع المخيف بين اليمين واليسار الليبرالي عندما حاول قبل أيّام، وبلطف، التذكير بمسؤوليّة واشنطن في الأزمة الحاليّة. جذور الأزمة الحاليّة تعود إلى توسيع نطاق حلف شمال الأطلسي. أميركا تريد تطويق روسيا وخنقها من أجل التفرّغ للخطر الصيني. استخفّت أميركا بالخطر الروسي ولهجة بوتين الأخيرة تعكس ذلك. أميركا لا تعبأ لكرامة الشعوب وليس تعاطيها مع العرب عبر العقود إلا دليل على ذلك.
بوتين يتحدّث عن الوضع على حدود روسيا، بصرف النظر إذا كان ذلك حقاً له أم لا. لكن أميركا استعملت الخطاب لغزو بلاد تبعد عنها نحو عشرة آلاف ميل


أميركا لم تخفِ نيّتها الخبيثة بعد انهيار الاتحاد السوفياتي. أرادت السيطرة على كل العالم أجمع وفرض هيمنتها على كل الشعوب قاطبة. بهذه البساطة. لكن لم تكن توارب في طموحاتها الهتلريّة. وبوريس يلتسين كان مثالياً للسياسة الأميركيّة. أصبح تابعاً لأميركا وكان وزير خارجيّته يتلقّى الأوامر من وزارة الخارجيّة الأميركيّة. لم تمانع أميركا أن يلتسين كان مخموراً أو أنه كان فاسداً أو أنّه خرّج جيلاً من أثرياء الفساد الذين انتشروا في أنحاء أوروبا. سخّرت أميركا صندوق النقد الدولي لضمان انتخاب يلتسين. في تمّوز عام 1996، صدرت مجلّة «تايم» بغلاف يشرح، أو يزهو بِالخطة الأميركيّة السرّية لتثبيت يلتسين في الرئاسة. في حينه، لم تتورّع إدارة بيل كلينتون عن تهديد الشعب الروسي في حال تخلّى عن المرشّح الأميركي. كان ذلك في زمن كان الشعب الروسي يعترف بأنه يحنّ إلى زمن الشيوعيّة بسبب تردّي الحالة المعيشيّة (لا تزال هناك نسبة ملحوظة تحنّ إلى زمن الاتحاد السوفياتي). لم تكتفِ أميركا بالسيطرة على المقدّرات السياسيّة لروسيا وجعلها دولة تابعة بالكامل لها، بل هي أحاطتها بدول معادية تحتضن قوات وسلاحاً أميركيّاً. توسيع حلف شمال الأطلسي أشعل الأزمة الحالية. أميركا لم تتورّع عن ضم جمهوريّات ثلاث كانت جزءاً من الاتحاد السوفياتي إلى حلف شمال الأطلسي. كيف يمكن أن تقرأ روسيا العمل هذا غير أنه عمل عدائي صريح؟
كان معظم خبراء الدراسات السوفياتية أو ما سُمِّي بـ«دراسات ما بعد السوفياتيّة» يعارضون توسيع الـ«ناتو». الخطوة بنظر الخبراء كانت استفزازية وتهدّد بعودة للحرب الباردة. أذكر تلك الفترة كيف أن خبراء الدراسات السوفياتية وما بعد السوفياتيّة في جامعة كاليفورنيا في بيركلي (وهم ليسوا من اليسار) أجمعوا على معارضة توسيع الـ«ناتو». رأوا في ذلك إشعال حرب مؤجّلة واستفزازاً صريحاً لروسيا. كانت روسيا ضعيفة يومها ولم تكترث واشنطن لمشاعرها. حتى عميد الخبراء الحكوميّين في الإدارات الأميركيّة في الحرب الباردة، جورج كينان، حذّر من مغبّة توسيع الـ«ناتو». والوقاحة الأميركيّة تعتبر أن لبنان في الخمسينيّات والثمانينيّات يمثّل مصالحها الحيويّة، وأن غزو واحتلال العراق ضروري للأمن الأميركي لأن البديل «هو وصولهم لنا وتهديدنا»، كما كان جورج بوش يكرّر في خطبه. العالم كلّه مصالح حيويّة أميركية مما يعطي لأميركا الحق في غزو كل بقعة في العالم. لكن تحرم أميركا روسيا من حقها في أمن حدودها. لأميركا سياسة معلنة بمنع أي دولة في العالم من منافسة سيطرتها العالمية. وسياسة الأمن القومي الأميركي في إدارة بايدن أعادت التأكيد على هذه السياسة. كانت الخطة الأميركيّة حتى في عهد يلتسين تعتمد على تزنير روسيا بمحيط معادٍ لها ومنضوٍ في حلف الـ«ناتو». أميركا أرادت منع أي انتعاش للقوّة الروسية تحت أي مسمّى. والعداء الأميركي يثبت أن الحرب الباردة لم تكن أيديولوجيّة بالنسبة لها. كانت صراع قوّة محض. أميركا أرادت تركيع روسيا إلى الأبد. هي تعاملت مع روسيا بعد انهيار الاتحاد السوفياتي كما تعامل المنتصرون مع ألمانيا بعد الحرب العالميّة الأولى. لم يكن هناك أي تفسير عقلاني للإصرار الأميركي على الحفاظ على الـ«ناتو» وضمّ أعضاء سابقين في المنظومة الشيوعيّة فيه. هذا المخطط هو جزء من هيمنة أميركيّة على أوروبا برمّتها ومنع الطرف القوي فيها من الانبعاث مرّة أخرى.

أدخل خطاب بوتين الشامل عن أوكرانيا العالم في حقبة جديدة تؤرّخ لنهاية ما بعد الحرب الباردة(أ ف ب )

خطاب بوتين إعلان ظهور القوة الروسية العالميّة، على الأقل في نطاق إقليمي. بدأت ملامح التململ الصيني والروسي في عام 2011 في قرار مجلس الأمن 1973 القاضي بحماية المدنيّين في ليبيا. اتخذته إدارة أوباما ذريعة لغزو ليبيا وتدميرها ـــــ تدميرها وطناً ومجتمعاً كما فعلت في العراق وفي أفغانستان. والرئيس الأميركي الحالي، مع مساعده أنتوني بلينكن آنذاك، حاججا بضرورة تفتيت العراق وتقسيمه إلى ثلاثة كانتونات. علمت روسيا والصين أن شهية أميركا للسيطرة والهيمنة لا حدود لها وأن الانصياع الصيني- الروسي لها في مجلس الأمن إنما يزيد في غيّها. بوتين يستعين بخطاب الأمن القومي الأميركي الذي تستعمله أميركا حول العالم للدفاع عن مجاله الحيوي حول حدوده. المفارقات لا نهاية لها في الوضع العالمي الحالي. الحكومة الكنديّة تفرض إجراءات قمعيّة بوليسيّة ضد محتجّين سلميّين في أوتاوا وتجمّد أرصدتهم وأرصدة من يتعاون معهم، فيما تتشدّق بشعارات الحرّية. السفارة الصينيّة في كندا لم يفتها المقارنة بين الخطاب الكندي في الدفاع عن حقوق المحتجّين في هونغ كونغ مقارنة بقمع المحتجّين في أوتاوا. بوتين يتحدّث عن الوضع على حدود روسيا، بصرف النظر إذا كان ذلك حقاً له أم لا. لكن أميركا استعملت الخطاب لغزو بلاد تبعد عنها نحو عشرة آلاف ميل.
لم تبدُ الإمبراطوريّة الأميركيّة في حالة ارتباك لا بل ذعر كما تبدو هذه الأيّام. وهي لم تتحضّر لهذه اللحظة. أحسن نيكسون وكيسنجر التحضير للحظة التوتر في العلاقة بين الجبّارين عبر تحسين العلاقة مع الصين. أمّن ذلك إمكانيّة محاصرة الاتحاد السوفياتي بجبّاريْن، لا يتشاركان في الأيديولوجيا. لو أن الاتحاد السوفياتي استثمر في تحسين العلاقة مع الصين وإنهاء الشقاق الروسي - الصيني لكان ذلك قد أمدّ في عمر الاتحاد السوفياتي. أميركا اليوم تضرب خبط عشواء وتستعدي الصين وروسيا معاً. صحيح أن الصين لم تساند الإعلان الروسي لكنها لم تعارضه. هي تراقب مستخلصة الدرس حول مواجهة محتملة (أو حتميّة) حول تايوان. السلوك الأميركي سهّل التوقّع: تصنّع التفوّق الأخلاقي والنطق بلغة القانون الدولي وإطلاق كلام يسهل توجيهه لإدانة كل سلوك الولايات المتحدة منذ الحرب الباردة (أو منذ الحرب العالميّة الثانية). أميركا بعدوانيّتها تدفع بالصين وروسيا لرصّ الصفوف وتدفع بهما لاتخاذ مواقف أكثر تشدّداً في مواجهة الولايات المتحدة في مجلس الأمن. خسرت أميركا مجلس الأمن حتى إشعار آخر.
العقوبات الأميركيّة باتت سلاحاً مفضّلاً وهو سلاح قاتل. التبادلات التجاريّة خاضعة للسيطرة الأميركيّة بحكم هيمنة الدولار وهي سهلة المراقبة في العصر الإلكتروني. إرسال مبلغ بضع مئات دولارات يتطلّب ملء قسيمة طويلة في مكاتب «وسترن يونيون». قضت أميركا بعد 11 أيلول على حريّة التبادل… المالي الرأسمالي. لكن سلاح العقوبات له أجل محدّد. يمكن تشكيل جبهة عالميّة لإيجاد بدائل. الصين وروسيا تتحضّران لذلك (كتب عامر محسن هنا قبل أيّام عن استبدال نظام «سويفت»). وهل إن الحكومة الأميركيّة في عهد الرئيس الأقل شعبيّة قادرة على تحمّل أعباء مالية جديدة بسبب تدهور الاقتصاد ونحن على أعتاب أقلّ من سنة للانتخابات النصفيّة التي ستنهي على الأرجح السيطرة الديموقراطيّة على الكونغرس؟ والعقوبات رفعت سعر برميل النفط إلى مئة دولار وهذا سيفيد روسيا وسيضرّ أميركا التي تتقرّر فيها مصائر الحزب الحاكم أحياناً بناء على أسعار المحروقات في محطات البنزين.
الوضع الاقتصادي الأميركي ليس مريحاً، والرئيس الأميركي يبدو حائراً في ما عليه أن يفعله. هو يحثّ أوروبا على اتخاذ مواقف صلبة، لكنه لا يستطيع أن يجاريها في ترجمة هذا التصلّب


الحرب الباردة لم تتوقّف بالنسبة لأميركا لأن عنوانها لم يكن فقط صراعها ضد الاتحاد السوفياتي. هي كانت تحارب كل الحركات والأنظمة التي كانت تعارض المشيئة الأميركيّة. أميركا كانت تحارب عبد الناصر حتى عندما كان يمنع العمل الشيوعي في مصر لأن الأساس بالنسبة إليها هو منع حرّية الشعوب وحماية مصالح الغرب وإسرائيل. هذه الحرب الدعائية التي تخوضها أميركا تستعير من زمن الحرب الباردة. ودور الإعلام الغربي (الليبرالي في معظمه) لا يزال إعلاماً حكوميّاً دعائيّاً. إعلام الغرب حرّض للحرب لا بل إن إجماعاً ساده هذا الأسبوع تمحور حول خطيئة عهد أوباما لأنه لم يقصف سوريا كما يجب عندما وضع «خطاً أحمر». إعلام الغرب وإعلام الخليج بات يتوافق على ضرورة استخدام المزيد من القوّة في السياسة الخارجيّة الأميركيّة. يلومون أميركا لأنها وديعة ومسالمة بإفراط.
عالم العلاقات الدوليّة يتشكّل من جديد. نشبت الحرب أم لم تنشب الزمام يتملّص من يد أميركا. لن تصبح روسيا اتحاداً سوفياتياً ولن تعزف أميركا عن محاولة السيطرة على العالم لكن جرائم أميركا وأكاذيبها تلاحقها منذ نهاية الحرب الباردة. هي تدفع اليوم ثمن أكاذيبها لروسيا. أميركا وعدت روسيا بعد سقوط جدار برلين بأن الـ«ناتو» لن يتوسّع شرقاً. والصحافة الألمانيّة (كما كتب «ذا ديسيدنت») وجدت دلائل على صحّة خبر الوعد الأميركي الذي تنفيه الحكومة الأميركيّة والصحافة الغربيّة الموالية عن أن أميركا كانت قد وعدت روسيا في عام 1991 بأنها لن توسّع الـ«ناتو» نحو الشرق. وأميركا عريقة في الحنث بالوعود والتعهّدات والمعاهدات، منذ عهد الاتفاقيات التي كانت توقّعها مع قبائل السكّان الأصليّين. وليس نقض الاتفاقيّة الخاصّة بالسلاح النووي الإيراني إلا مثالاً على سلوك أميركا في العلاقات الدوليّة. أميركا توقّعت أن يكون يلتسين مثالاً للحاكم الروسي الدمية الذي يطيع الأوامر مقابل تمويل (لحكومته ولعصابته من الفاسدين). أميركا تعاملت مع العالم بعد انهيار الاتحاد السوفياتي كما المنتصرين في الحرب الثانية: أن العالم لها، لا تتقاسمه مع أحد، ومن يعترض هناك القوة المسلّحة بانتظاره مصحوبة بعقوبات قاتلة ــــ حرفياً قاتلة، لأن عقوبات أميركا تقتل الشعوب.
مجلس الأمن كان مطواعاً للمشيئة الأميركية، وشكّل مصدر ذرائع ومخرج تفسيرات للحروب والغزوات الأميركيّة. وكانت الحرب ضد الإرهاب بعد 11 أيلول الطريق السهل لأميركا كي تنشر قواتٍ حول العالم. الصين وروسيا راقبتا السلوك الأميركي وتعاونتا على تمرير المشاريع الأميركيّة والحروب لكن بعد غزو ليبيا باتت الدولتان تخشيان على مصالحهما. تقول الـ«إيكونومست» في تعليقها على الأحداث في أوكرانيا إن بوتين سيشكّل الدافع الأكبر للقومية الأوكرانيّة أكثر بكثير من لينين في احترامه لحق الشعوب في تقرير مصيرها في الإمبراطورية. لكن أميركا في سلوكها تغذّي ليس فقط القوميّة في الصين وروسيا بل أيضاً تلعب دوراً في حث الدولتيْن، ومعهما دول أخرى، على تشكيل جبهة عالميّة مناهضة للهيمنة الأميركيّة. أميركا كانت متحمّسة لتغذية الصراع في أوكرانيا أكثر من أوكرانيا وهي التي حثّت ألمانيا على توقيف أنبوب الغاز. أميركا استثمرت في تصليب موقف الحكومة الأوكرانيّة، وفرض شراء باهظ للسلاح الأميركي. أميركا لا تريد حلولاً سلميّة وهي نشرت قواتٍ لها في عدد من دول أوروبا الشرقيّة (أكثر من 14 ألف جندي) قبل أن تتحرّك القوّات الروسيّة في الإقليميْن المنفصليْن. أميركا صمّمت أن تبقى أوكرانيا، على حدود روسيا، دولة تابعة لها للضغط على روسيا ومحاصرتها من كل الجهات. وهي لا تفهم سبب القلق الروسي مع أنها نشرت صواريخ لها في سلوفانيا ورومانيا، وقريباً ستنشر في بولونيا.
الإمبراطوريّة الأميركيّة تعلم أنها لن تخلّد لكنها لن تسلّم بذلك سلميّاً. العمليّة ستستغرق سنوات وربما عقوداً لكنها ستحتاج إلى حروب وغزوات لتثبيت المواقع. لكن الإمبراطوريّة ليست في وضع يسمح لها باستعمال القوة المسلّحة بنفس سهولة الثلاثين سنة الماضية. حرب العراق وأفغانستان كانت فشلاً ذريعاً، والوضع الاقتصادي الأميركي ليس مريحاً، والرئيس الأميركي يبدو حائراً في ما عليه أن يفعله. هو يحثّ أوروبا على اتخاذ مواقف صلبة، لكنه لا يستطيع أن يجاريها في ترجمة هذا التصلّب. هذه أزمة بدأتها أميركا عندما دعمت انقلاباً في أوكرانيا في 2014، ثم دعمت موقف الحكم الدمية الجديد في إهمال اتفاقيّة «منسك» التي كانت تقضي باحترام وضع الإقليميْن الشرقيّيْن في أوكرانيا واللذيْن كانا يتعرّضان لقصف مستمر على مدى ثماني سنوات. التدخّل العسكري الروسي سيرسم خريطة جديدة من المواقع والتحالفات وأميركا ستزيد من أفعالها الاستفزازيّة ومن حروبها وعقوباتها ضد الشعوب. لكن الموقف العربي المتحمّس للتدخل الروسي لا مبرّرَ له، كما ذكّرَ إبراهيم الأمين، إلا من ناحية أن هناك مَن يتحدّى أميركا للمرّة الأولى في أوروبا بعد الحرب الباردة. صحيح أن بوتين صديق إسرائيل (كما أن الرئيس الأوكراني هو صهيوني صفيق) لكن تحدّي الإرادة الأميركية يشفي ـــــ وإن قليلاً ـــــ غليل من عاش ومات تحت وطأة القنابل والصواريخ الأميركيّة في بلادنا.