لا تتخلّى الإمبراطوريات عن أيّ مكاسب سياسية أو اقتصادية سبق أن حقّقتها، إلّا تحت ضغط موازين قوى لغير مصلحتها. هي يندر أن تقوم بعملية تنظيم طوعية لتراجعها، نتيجة لإدراكها ضمور قدراتها الإجمالية، وغالباً ما تفعل ذلك بعد هزائم وإخفاقات. لا تشذّ الإمبراطورية الأميركية عن هذه القاعدة. فعلى الرغم من إقرار العديد من المسؤولين السابقين والخبراء، بواقع الانحسار، ولو النسبي، للهيمنة الأميركية، وصعود دور منافسين استراتيجيين كالصين وروسيا، وضرورة التركيز على الأولى باعتبارها التحدّي الأشدّ خطورة، فإن السياسة الفعلية المعتمَدة من قبل إدارة جو بايدن، لا تُعير اهتماماً لمثل هذه الآراء. فمع ردّها السلبي على مقترحات الضمانات الروسية، وأهمّها عدم ضمّ أوكرانيا لحلف «الناتو»، كما قال وزير الخارجية الروسي، سيرغي لافروف، تُظهر الولايات المتحدة إصرارها على التمسّك بالمكاسب الاستراتيجية التي حقّقتها في مرحلة الأحادية القطبية، بعد انهيار الاتحاد السوفياتي، عبر السيطرة على بعض دول جوار روسيا، من خلال إدخالها في «الناتو»، والمضيّ في توسيع هذه السيطرة نحو دول أخرى في هذا الجوار. تعي واشنطن أن قرار موسكو منع ذلك التوسيع، ولو بالقوّة، لا رجعة عنه. ما صدر حتى الآن من مواقف عن الحلف الغربي وقادته، يتلخّص في التلويح بـ»عقوبات لا سابق لها» على روسيا، في حال تدخّلها عسكرياً في أوكرانيا. قد تنجم عن فرض هكذا عقوبات، ومن بينها إخراج روسيا من النظام المالي العالمي، ووقف العمل بمشروع «السيل الشمالي 2»، مصاعب اقتصادية كبرى بالنسبة إلى موسكو، لكنها لن تكون إجراءات رادعة تحول دون قيام قيادتها بما تعتبره دفاعاً عن أمنها القومي، وفي ظلّ ظروف دولية مؤاتية.لن تُرسل الولايات المتحدة جنودها لقتال الجيش الروسي في حال تدخّله في أوكرانيا. العديد من المحلّلين والمعلّقين الأميركيين الجدّيين، كإلريدج كولبي مثلاً، مساعد نائب وزير الدفاع الأميركي الأسبق، الذي ساهم في بلورة استراتيجية الدفاع الوطني في عام 2018، رأى في تغريدة طويلة على «تويتر»، أن «الأميركيين وحلفاءنا يحتاجون للعودة إلى الواقع: ليس لدينا، ولن يكون لدينا، قوة عسكرية كافية لزيادة التزاماتنا في أوروبا، وفي الآن نفسه، تعديل ميزان القوى نوعياً لمصلحتنا في آسيا في مواجهة الصين. علينا التركيز على الأولوية الأولى… الحقيقة هي أن آسيا أهمّ بكثير من أوروبا. فهي ستنتج أكثر من 50% من الناتج الإجمالي العالمي، بعد 20 سنة، بينما ستنتج أوروبا 10% منه في الفترة نفسها». أما ديريك غروسمان، المحلّل في شؤون الأمن القومي في منطقة المحيط الهندي ــــ المحيط الهادئ، فقد أشار إلى أنه «في حال اجتياح روسيا لأوكرانيا، وهو أمرٌ أصبح وارداً جدّاً راهناً، فإن على الولايات المتحدة نسيان التركيز على منطقة المحيط الهندي ــــ المحيط الهادئ في عام 2022. من الممكن أن يتحوّل شرق أوروبا بسهولة إلى شرق أوسط جديد تغرق واشنطن في وحوله». مقاومة «جاذبية المعارك «الثانوية»، حتى لو كانت على المسرح الأوروبي، المركزي في العقود الماضية، والتفرّغ للمعركة الرئيسة مع الصين، هي التوصية التي تتكرّر على مسامع صنّاع القرار الأميركيين، من قبل «أهل الخبرة» في هذه الأيام. هذا ما يفسّر اللجوء إلى سلاح العقوبات ضدّ روسيا، بالاستناد أيضاً إلى فرضية أخرى، رائجة بين المحلّلين الأميركيين والغربيين، مفادها أنّ الطبيعة «الأوليغارشية» لما يسمّونه «نظام بوتين» يجعله شديد الحساسية والضعف حيال العقوبات، التي تستهدف الفريق المكوّن لنواته الصلبة.
تُظهر الولايات المتحدة إصرارها على التمسّك بالمكاسب الاستراتيجيّة التي حقّقتها في مرحلة الأحاديّة القطبيّة


ومن دون الخوض في نقاش بشأن طبيعة النظام الروسي، فإن مراجعة التجربة الممتدّة منذ عام 2014، عندما ضمّت روسيا القرم، تثبت أن العقوبات التي تعاظمت منذ ذلك التاريخ، لم تفض إلى أيّ تراجع روسي على مستوى سياسات التدخّل الخارجي، دفاعاً عن الأمن القومي والمصالح الوطنية. رأينا، على العكس، تدخّلاً في سوريا في السنة التالية، ومن ثمّ، ولو بدرجات أقل وبأشكال مختلفة، في ليبيا وفي السودان، وفي إفريقيا الوسطى، وفي مالي، وأخيراً في ناغورنو قره باغ وفي كازاخستان. الدولة العميقة الروسية ونواتها العسكرية والأمنية، مدركة طبيعة استراتيجية الاحتواء المتّبعة من قبل واشنطن حيال موسكو، لأهداف لاعقلانية موروثة من زمن «اللحظة الأحادية»، وهي إضعاف روسيا وزعزعة استقرارها إلى حدّ التسبّب بتقسيمها، إن كان ممكناً. لذا، هي تتحيّن الفرص للتصدّي للولايات المتحدة بحزم. الفرصة حالياً، في ظلّ احتدام المواجهة بين واشنطن وبكين، أكثر من مناسبة، والأخيرة تستفيد بدورها من التصعيد الروسي، في إطار مجابهتها مع الأولى. دول وازنة أُخرى، كالهند مثلاً، بسبب صِلاتها التاريخية مع روسيا وتعاونها معها في المجالات العسكرية والنووية، لم تقف في صفّ الولايات المتحدة في الأزمة الحالية، والأمر نفسه بالنسبة إلى باكستان، وغيرها من البلدان الوازنة في جنوب العالم، على عكس القارّة العجوز، التي هرعت للاحتماء بواشنطن، مؤكّدة مرة أخرى انقيادها الكامل خلفها، في لحظة استفحال الأزمات الدولية.