سيكون العقْد المقبل «فوضوياً» في مجال الطاقة. هذا ما يراه جيسون بوردوف، مساعِد الرئيس الأميركي الأسبق باراك أوباما ومدير الطاقة في إدارته، وميجان ل. أوسوليفان، المساعِدة الخاصة بالرئيس الأميركي الأسبق جورج دبليو بوش ونائبة مستشار الأمن القومي، في مقالهما الذي سيُنشر الشهر المقبل في مجلة «فورين أفيرز» بعنوان «الاضطرابات الخضراء... الجغرافيا السياسية الجديدة للطاقة». فالوضع العالمي الحالي يُشبه فترة انتهاء الحرب العالمية الأولى، حيث ساد مبدأ: «مَن يملك الطاقة يملك النصر»، والذي يبدو أنه سيَحكم التشكيل الجيوسياسي المستقبلي لعالم يعيش توتّراً سببه تسرّب موازين القوى نحو الشرق. التبنّي العالمي للابتعاد عن النفط والغاز - لأسباب بيئية - لصالح الطاقة النظيفة مثل الهيدروجين الأخضر والأزرق والأمونيا وغيرها، والضغط على الشركات العاملة في القطاع لتقليل استثماراتها، سيُعيدان تشكيل العالم بالقدْر نفسه من الدراماتيكية، فيما سيكون الخاسر الأكبر في ذلك، الدول التي تعتمد بشكل رئيس على النفط والغاز في اقتصادها، كما هو الحال مع روسيا. لكن من أجل الوصول إلى مرحلة الانتقال نحو طاقة نظيفة متجدّدة، وتقليل الاعتماد على كبار مورّدي الطاقة الأحفورية عام 2050، سيتحتّم على العالم زيادة طلبه على الغاز، الأقلّ تلويثاً.
مستقبل نقل الطاقة
يتوقّع تقرير نشرته مؤسّسة «مورغان ستانلي» للأبحاث الاستثمارية، الشهر الماضي، أن يصبح الغاز الطبيعي المسال أسرع المحروقات نموّاً خلال العقد المقبل، وأن يرتفع الطلب عليه إلى 50 في المئة بحلول عام 2030. ويلفت التقرير إلى أنه من أجل تلبية الطلب على هذه المادّة، سيتطلّب الأمر بالإضافة إلى 200 مليار دولار من المشاريع الجارية، نحو 65 مليار دولار إضافية من المشاريع الجديدة. وهو ما أكّده أيضاً تقرير منتدى الدول المُصدِّرة للغاز لعام 2021، والذي رجّح ارتفاع الكمّية الجديدة من الغاز الطبيعي المسال المصدَّر إلى 18 مليون طن سنوياً، بفضل مشروعات في إندونيسيا وموزمبيق وماليزيا وروسيا والولايات المتحدة والشرق الأوسط.
العام الماضي، بدأت دول وشركات اعتماد سياسات جديدة بخصوص وسائل انتقال الطاقة، في علامة فارقة على إعادة تشكيل نظام الطاقة، بما قد يصاحبه من تغييرات جيوسياسية. إذ ترى بعض الدول المستهلِكة للغاز صعوبة الاعتماد التامّ على الأنابيب لتوصيله، لاعتبارات ثلاثة: الأوّل، «الأمن الوطني» كما في حالة الغاز الروسي لأوروبا؛ الثاني، عدم ضمان استمرار الإمداد لارتباط الأنبوب باستقرار جيوسياسي كما في الحالة الجزائرية - المغربية وتأثير الخلافات على إمداد أوروبا بالغاز الجزائري؛ والثالث، توفير الحماية لخطوط الغاز الممتدّة لمئات الأميال، خصوصاً في ظلّ تهديدات حقيقية، سواءً على الخطوط البرية أو البحرية.
وعليه، بدأت الشركات العملاقة العاملة في قطاع إنتاج ونقل الغاز، مضاعَفة استثماراتها في مجال البحث والتنقيب عن الغاز، وزيادة أساطيلها البحرية من سفن الحفر (Drilling Ships)، وسفن الإنتاج والتخزين والتفريغ العائمة (FPSO)، وسفن الغاز الطبيعي المسال العائمة (FLNG)، وسفن وحدات تخزين وإعادة تحويل الغاز العائمة (FSRU)، ذوات التكلفة الرخيصة والمرنة بالمقارنة مع منشآت التنقيب والتسييل والنقل الثابتة. ومع نهاية عام 2019، كانت قد أُضيفت 42 ناقلة جديدة عالمياً إلى 541 سفينة نشطة في ذلك التوقيت، ليُواكب عددَ الدول المستهلِكة حديثاً للغاز المسال، والذي ارتفع إلى 48 دولة. وأظهرت دولة قطر جدّيتها في الاستحواذ على حصّة كبيرة من سوق الغاز ونقله؛ ففي منتصف عام 2020، وفي ظلّ وباء «كورونا» واستمرار التغيّر المناخي - القضيّتَين اللتَين أثّرتا على مستوى الطلب على الطاقة -، أعلنت الدوحة استراتيجيّتها المستقبلية في مجال الغاز، بإضافة 120 ناقلة بحرية على مدى 10 سنوات، لتنضمّ إلى أسطولها الحالي المكوّن من 74 ناقلة، والذي يُعدّ الأضخم في العالم، إلى جانب توسيع الإنتاج في حقل الشمال.

المقارعة الأميركية لروسيا
إعلان قطر مضاعفة ناقلاتها البحرية، في ذلك التوقيت بالذات، المتزامن مع ارتفاع اكتشافات الغاز الحديثة في البحر المتوسّط وفي الأميركيّتَين وأفريقيا، يتماشى مع توجّه تقوده الولايات المتحدة، بعد فشل مشاريع عدّة لمدّ أنابيب الغاز إلى أوروبا وتقليل الاعتماد على الغاز الروسي. في كتابها «الجغرافيا السياسية الجديدة للغاز الطبيعي» (2017)، تُذكّر الكاتبة آغنيا غريغاس ببداية المحاولات الأميركية لتوفير بدائل من الغاز الروسي؛ من مشروع خطّ الغاز المعروف بـ«نابوكو» عام 2002، وتوسّط واشنطن محاولات لنقل غاز قطري عبر سوريا، وصولاً إلى المشروع الموؤود المعروف باسم «إيست-ميد» بين إسرائيل وقبرص واليونان باستثمارات إماراتية، إلّا أن تلك المحاولات كافة انتهت قبل أن تبدأ؛ لعدّة أسباب، أهمّها استحالة توافر التأمين الكافي لتلك الخطوط الطويلة، سواءً برّاً أو بحراً، ناهيك عن محدودية الجدوى الاستثمارية للمشاريع، وغياب الضمانات ببقاء الإمدادات متواصلة حتى في ظلّ التغيّرات الجيوسياسية، وهو ما جعل دولاً من مثل تركمانستان وأوزباكستان وكازاخستان تُحجم عن تبنّي مشروع «نابوكو»، وإيطاليا عن تبنّي مشروع «إيست-ميد»، خصوصاً مع تواجد الروس عسكريّاً في سوريا.
من هنا، وجد الأميركيون وحلفاؤهم والشركات الاستثمارية ضالّتهم في تعظيم دور الغاز المسال كبديل من الغاز الروسي، بالتزامن مع اكتشافات عديدة وزيادة مهولة في إنتاج النفط والغاز الصخري، حوّلت الولايات المتحدة إلى واحد من كبار المصدّرين للغاز المسال في 2017، قبل أن ترتفع صادراتها بنحو 58 في المئة في النصف الأوّل من عام 2018، ويُصبح غازها المُصدَّر إلى أوروبا، خلال الأشهر الأولى من عام 2019، يمثّل نحو 13 في المئة من إجمالي واردات الاتحاد (ثالث أكبر مورّد)، بحسب بيانات إدارة معلومات الطاقة الأميركية والمفوضية الأوروبية للطاقة، في حصّة يُتوقّع أن تتضاعف في 2022. ولتخطّي العقبات أمام خلْق سوق عالمي للغاز الأميركي المسال الحديث، اعتمدت واشنطن سياسات أكثر عدائية؛ فالرئيس السابق، دونالد ترامب، دأب على انتقاد اعتماد أوروبا بشكل مفرط على الغاز الروسي، ووصَف الغاز المسال الأميركي بـ«غاز الحرّية» الذي سيحرّر أوروبا من الابتزاز الروسي، وذلك بالتزامن مع توقيع عقوبات أميركية على روسيا لتعطيل أنبوب «نورد ستريم 2». قبلها، وإثر العقوبات الأميركية مع ضمّ روسيا شبه جزيرة القرم، وما تلاه من سيل العقوبات الاقتصادية الأوروبية عليها، اندفعت موسكو للتقارب مع بكين لمنْع محاولات تقييد سوقها، وهو ما تكلّل بشراكة بين مجموعة «غازبروم» الروسية للغاز والعملاق الصيني «سي إن بي سي»، في مدّ أنبوب «باور أوف سيبيريا» لضخّ الغاز الروسي من حقول سيبيريا للصين.
وجد الأميركيون وحلفاؤهم والشركات الاستثمارية ضالّتهم في تعظيم دور الغاز المسال كبديل من الغاز الروسي


ومع وصول جو بايدن إلى البيت الأبيض، اتّخذت هذه السياسات منحىً تصاعدياً، لتبدأ شركات كبرى، مِن مِثل «إكسون موبيل» و«شيفرون» و«رويال داتش شل» و«قطر للطاقة» تحويل استثماراتها الضخمة نحو تطوير قطاع نقل الغاز المسال، ونشر مصافي التخزين في أوروبا وأساطيل النقل والتخزين البحرية، والتحضير لسيناريوات مستقبلية كنقل الغاز عبر الأساطيل الحربية، أو جواً عبر أسراب الطائرات من دون طيار، وفق ما تُشير إليه دراسة منشورة هذا العام في مجلة «Journal of Cleaner Production»، بعنوان «سلامة وأمن نقل خطوط أنابيب النفط والغاز: تحليل منهجي لاتجاهات البحث والاحتياجات المستقبلية». كما أن تفضيل البعض تسييل الغاز على بيعه مباشرة، كما فعلت قبرص واليونان وإسرائيل، ببيعه لمصر القادرة على تسييل الغاز عبر محطّاتها، بالتزامن مع تسريع عودة علاقات القاهرة بالدوحة بعد قطيعة وحرب باردة بينهما، ومشاركة قطر في مشاريع التنقيب وتسييل ونقل الغاز المصري (بالإضافة إلى القرار المصري الأخير بمنح خصم يتراوح بين 30 إلى 70% على رسوم عبور ناقلات الغاز المسال من قناة السويس)، فضلاً عن بدء كلّ من واشنطن و القاهرة والرياض في 9 كانون الثاني تدريبات بحرية «غير نمطية» لحماية سفن الشحن في البحر الأحمر، كلّها مؤشّرات تعزّز التوجّه نحو التسييل والاعتماد على النقل البحري «الآمن»، بدلاً من مشاريع الربط الأنبوبي مع أوروبا عن طريق البحر المتوسط.



موسكو يقظة
تدرك روسيا أن العالم يتغيّر من حولها، ولذا فهي تجتهد في حماية مكانها وتعزيزه. ففي نيسان من العام الماضي، وبناءً على استراتيجية الطاقة الروسية لعام 2035، تمّ إعلان سياسة مضاعفة إنتاج الغاز الطبيعي المسال المستهدف إلى 140 مليون طن سنوياً بحلول عام 2035، ما سيرفع حصة الغاز الطبيعي المسال من إجمالي إنتاج الغاز الروسي من 4.2 في المئة في عام 2018 إلى 22.4 في المئة، وسيتضاعف الرقم بحلول عام 2050. ولنقل الغاز الروسي المسال، سيتوجّب على موسكو، كما اللاعبين الصغار في مجال الغاز، الحفاظ على علاقات جيّدة مع الشركات والدول المالكة لأساطيل النقل البحري، بحسب دراسة منشورة في مجلة «استراتيجية الطاقة» بعنوان «صادرات الغاز الطبيعي الروسي: تحليل للتحديات والفرص».


تراجُع «تجارة الأنابيب»
بحسب تقرير «منتدى الدول المصدِّرة للغاز»، فإن تجارة الغاز عبر خطوط الأنابيب العالمية انخفضت عام 2020، بنسبة 7% إلى 766 مليار متر مكعب. في المقابل، بلغ إجمالي صادرات الغاز الطبيعي المسال في السوق العالمي خلال الربع الثاني من عام 2021، حوالى 94.8 مليون طن، مقارنة بنحو 84.9 مليون طن خلال الربع المماثل من عام 2020، أي بمعدّل نمو على أساس سنوي حوالى 11.7 %.