تحوز «فاغنر» شهرةً عالمية واسعة، تكاد تضاهي شهرة «بلاكووتر» في زمنٍ مضى. بداية ظهور القوّة العسكرية الخاصّة، يعود إلى عام 2014، وتحديداً من إقليم دونباس الانفصالي في الشرق الأوكراني، حيث قاتلت ــــ أو يقال إنها قاتلت ــــ جنباً إلى جنب انفصاليّي جمهوريتَيْ دونيتسك ولوغانسك الشعبيتَين المدعومتين من روسيا إبّان ضمّها شبه جزيرة القرم وما رافق الحدث من تمرُّد في الشرق. وباستثناء ما يجري تداوله في وسائل الإعلام الغربية، والمحليّة الخاصّة، وبعض المنظّمات الدولية، عن نشأة مجموعة الارتزاق الروسية هذه وارتباطاتها، فضلاً عن مهمّاتها وخريطة انتشارها في بقاع مختلفة من العالم، لن يجد الباحث إلّا تصريحات يصبّ جلُّها في إطار نَفْي موسكو أيّ صلة بالشركة الأمنيّة الخاصّة، وآخرها ما ورد على لسان الرئيس فلاديمير بوتين نفسه، أمام منتدى «فالداي» (تشرين الأوّل 2021)، من أن لـ»فاغنر» مصالحها التي لا تعكس مصالح الدولة الروسية، إذ لديها، كما قال في مناسبة أخرى، «مصالح خاصّة مرتبطة باستخراج موارد الطاقة وغيرها»، مثل الذهب والأحجار الكريمة. وعلى رغم أن لا وجود شرعيّاً للمجموعة في الأراضي الروسية، حيث الشركات شبه العسكرية محظورة، إلّا أنه يمكن «توثيق» حضورها في كل من سوريا لدعم القوات النظامية، وفي ليبيا إلى جانب قوات المشير خليفة حفتر، وفي جمهورية أفريقيا الوسطى حيث يقوم عناصرها بـ»مهامّ تدريبية»، وفي مالي للغرض نفسه، فيما تشير تقارير إعلامية إلى تَوزُّع مرتزقتها على بلدان أفريقية أخرى، مِن مِثل موزمبيق والسودان.
بين النفي... والاعتراف
مجرَّد اعتراف روسيا بوجود المجموعة، قد يعني منْحها غطاءً وإنْ مواربةً؛ مع هذا، ليس لـ»فاغنر» رقم هاتف أو مكتب أو موقع إلكتروني، وليس معروفاً أصلاً ما إذا كانت شركة خاصّة حقاً أو، كما يعتقد بعض الخبراء، وحدة تتمتّع بالاستقلالية داخل وزارة الدفاع الروسية و/أو مديرية الاستخبارات، وتستخدمها الحكومة في نزاعات تتطلّب التخفّي. لكن موسكو تنفي أيّ علاقة مباشرة بالشركة التي تعود ملكيّتها، وفق الترجيحات و»الشائعات»، إلى رجل الأعمال الروسي الشهير، يفغيني بريغوجين، الذي ينفي، من جهته أيضاً، أيّ صلة له بالمجموعة. جمع بريغوجين (المدرج في قائمة عقوبات الاتحاد الأوروبي والولايات المتحدة على خلفية اتهامه بـ»زعزعة الاستقرار في ليبيا والتدخل في الانتخابات الأميركية ــــ 2016») ثروةً طائلة من خلال شركة المطاعم، «كونكورد»، التي يديرها، قبل أن يتعاقد مع الجيش الروسي لتزويده بالوجبات الغذائية، وفق ما تفيد به تقارير «منظمة العفو الدولية». وبحسب المنظمة، كان بوتين يرتاد مطاعم الملياردير الروسي في عام 2000، قبل أن تصبح «المموّل الرسمي لوجبات الكرملين»، فيما استثمر الرجل أيضاً في مجالات عدّة أخرى كالغاز والبترول في أفريقيا والشرق الأوسط، وفي مجال الإعلام والاتصال.
مجرَّد اعتراف روسيا بوجود المجموعة قد يعني منْحها غطاءً وإنْ مواربةً


التمدُّد أفريقياً
في الـ 23 من تشرين الأوّل عام 2019، استضافت مدينة سوتشي «قمّة تاريخية»، هي الأولى من نوعها، جمعت الرئيس الروسي إلى العشرات من رؤساء الدول الأفريقية، في ما بدا كأنه محاولة لإضفاء طابع رسمي على الحضور الروسي المتزايد في هذه القارة؛ فتعهّد بوتين، أمام ضيوفه، بأن بلاده «لن تشارك في إعادة تقسيم جديدة لثروة القارة؛ لكنّها تنافس على التعاون هناك» (تربّعت روسيا على عرش مُصدِّري السلاح للقارة: 39% من صفقات السلاح بين عامَي 2013 و2017).
في عهد بوتين، سعت روسيا إلى استعادة حضورها العسكري ليس في جمهوريات الاتحاد السوفياتي سابقاً فحسب، ولكن أيضاً في مناطق بعيدة مِن مِثل سوريا وبعض بلدان أفريقيا، حيث دعمت موسكو والغرب، خلال الحرب الباردة، أطرافاً متعارضة في الصراعات من القرن الأفريقي، وصولاً إلى موزمبيق وأنغولا. وتمكّنت موسكو من التوسُّع دبلوماسياً ــــ وأحياناً عسكرياً ــــ في دول أفريقية أخرى مثل السودان أيّام عمر البشير، حيث اتفق الجانبان على إنشاء قاعدة عسكرية على ساحل البحر الأحمر. وفي تحليل للاستراتيجية الروسية في أفريقيا أجرته «ريا نوفوستي»، في عام 2018، خلصت الوكالة إلى القول إن «روسيا تأخذ أفريقيا من دون قتال». وفي العام ذاته، سلّط مقتل ثلاثة صحافيين روس في جمهورية أفريقيا الوسطى، توجّهوا إلى هذا البلد للتحقيق في شأن أنشطة «فاغنر» هناك، الضوء على توسُّع روسيا في أفريقيا. وقتل هؤلاء بالقرب من سيبوت، البلدة الواقعة إلى شمال العاصمة بانغي، حيث، وفق تقرير للأمم المتحدة، تمّ نشر «مدرّبين» عسكريين روس لدعم قوات الأمن.
وفيما تتطلَّع روسيا إلى توسيع نفوذها في مالي، حيث يُنظَر إليها بوصفها شريكاً أمنياً مُحتملاً لملء الفراغ الذي سيخلّفه الانسحاب الفرنسي التدريجي من شمال البلاد مطلع العام المقبل، وإنهاء عملية «برخان» في الساحل، تبدو موسكو ــــ عبر مرتزقتها ــــ على استعداد للاضطلاع بهذه «المهمّة»؛ إذ أعلنت السلطات الماليّة في أعقاب إعلان فرنسا خفض حضورها العسكري، أنها في صدد التباحث لإبرام اتفاق مع شركة «فاغنر»، التي لا يتجاوز عدد أفرادها بضعة آلاف (ما بين 2500 إلى 5000 مرتزق)، لتدريب قواتها، كما سمح العقد للشركة الروسية بالوصول إلى ثلاثة مواقع للتعدين. وفيما جدَّدت روسيا، على لسان الناطق باسم الكرملين، ديمتري بيسكوف، أخيراً، نفيها إجراء اتصالات مع المجلس العسكري الحاكم في مالي، في شأن أيّ حضور عسكري هناك، لفت وزير خارجيتها، سيرغي لافروف، على هامش اجتماعات الجمعية العامة للأمم المتحدة، إلى أن باماكو اتّصلت بـ»شركات عسكرية خاصة» روسية لتدريب جيشها ومحاولة تعزيز الأمن، في مواجهة عدم الاستقرار والتهديد اليومي من قِبَل «الجهاديين». وقال: «الجميع يعترف بأن موسكو لم تتورّط في أيّ بلد»، دون أن يذكر مرتزقة «فاغنر» بالاسم.