تختلف ألمانيا وفرنسا مع الولايات المتحدة حول قضايا دولية كثيرة ومهمّة، على رأسها كيفية «إدارة الصراع» مع روسيا والصين مثلاً، لكنهما تتّفقان معها على هدف يشكّل ثابتاً من ثوابت القوى الغربية بمجملها: الحفاظ على التفوّق الاستراتيجي الصهيوني النوعي على جميع دول الإقليم الأخرى، عربية كانت أو إسلامية. لا يمكن فهم المواقف الغربية المسعورة، الأميركية والأوروبية، من البرنامج النووي الإيراني، السلمي حتى إشعار آخر، إذا غاب هذا المعطى الحاسم عن التحليل. جميع الحجج الغربية التي تُساق لتبرير التعامل الهستيري مع طهران، باستثناء الإقرار الأميركي الرسمي من قِبَل الإدارات المتتالية بالتزامها الحفاظ على التفوّق الإسرائيلي، هي مدعاة للسخرية لا أكثر. فلو صدَقت هذه الحكومات في المسوّغات التي تُقدّمها لتعاملها المذكور، وأبرزها «الحرص على الأمن والاستقرار في الشرق الأوسط»، كانت ستعتمد مقاربة مختلفة إن لم تكن مناقِضة. فكما أوضح كينيث والتز، أحد أهمّ وآخر الرموز الكبار للمدرسة النيو ــــ واقعية في السياسة الخارجية الأميركية، ومرجع العديد من المسؤولين الأميركيين من غير المحافظين الجدد، في مقال في «فورين أفيرز» في صيف 2012، بعنوان «لماذا ينبغي أن تمتلك إيران القنبلة؟»، فإن السبب الرئيسيّ لانعدام الاستقرار في الشرق الأوسط هو الاختلال الكبير في موازين القوى بين الأطراف المتنازعة فيه. يضيف والتز، في المقال الذي يقع في 6 صفحات، والذي احتلّ عنوانه صدر غلاف الدورية الأميركية آنذاك، أن استسهال اللجوء إلى القوّة العسكرية لحسم النزاع أو تحقيق أهداف من قِبَل الطرف الأقوى ضدّ الطرف أو الأطراف الأضعف، في أيّ بقعة من العالم طوال تاريخه الحديث، هو الدافع الفعلي لجميع الحروب. تنطبق هذه القاعدة أيضاً على الشرق الأوسط. ما يمنع الحروب، ويحفظ بالتالي «الأمن والاستقرار» العتيدَين، وفقاً للمفكّر الأميركي، هو تصحيح الخلل في ميزان القوى وتعادل الأطراف المتنازعة من حيث القدرات. لذلك، هو يعتبر أن امتلاك إيران للسلاح النووي وكسر احتكار إسرائيل له سيكون عاملاً مساعداً على الحؤول دون المزيد من الصراعات المدمّرة في الإقليم. طبعاً، لا يدخل والتز في نقاش حول مستقبل الكيان الصهيوني إذا شُلّت قدرته على المبادرة بالحرب وانتهى تفوّقه الاستراتيجي النوعي، بل يحصر اهتمامه بالظروف التي تسمح باندلاع نزاعات كبرى وبتلك التي تمنعها في المدى المنظور. بكلام آخر، لو صدقت مزاعم من يدعون إيران اليوم إلى التفاوض بـ»نوايا صادقة» حول برنامجها النووي، من سعي لتثبيت الاستقرار في الشرق الأوسط، ما كانوا ليعارضوا حصولها على قنبلة نووية، لا مجرّد عملها على امتلاك التكنولوجيا النووية السلمية كما تفعل راهناً.
المخرج الأكثر أماناً بالنسبة إلى واشنطن هو على الأقلّ فكّ الاشتباك مع طهران


يحاول هؤلاء الضغط سياسياً على إيران عبر التلويح باحتمال انهيار المفاوضات حول برنامجها النووي، مع ما يستتبعه هذا من تشديد للعقوبات عليها وعودتها إلى وضعها الذي كان سائداً قبل تموز 2015. لا تملك القوى الغربية خياراً عسكرياً بوجه إيران، في ظلّ الأولويات الاستراتيجية الحالية للولايات المتحدة المُوجَّهة ضد الصين، وبدرجة أقلّ روسيا. أجمعت النخب الأميركية على أن الغرق المديد في نزاعات الشرق الأوسط نجم عنه تعامٍ خطرٌ عن تطوّر القدرات العسكرية والسياسية والاقتصادية للمنافسين الاستراتيجيين الفعليين، أي البلدَين المذكورَين. من شبه المستحيل تكرار أخطاء الماضي في العراق وأفغانستان والتورّط في حرب جديدة في المنطقة، ولكن هذه المرّة ضدّ قوّة إقليمية وازنة كإيران ذات قدرات أكبر بما لا يقاس من تلك التي امتلكها نظام صدام حسين أو حُكم «طالبان» الأول. وغياب الخيار العسكري الأميركي يعني انعدام أيّ خيار غربي آخر. ما يملكه هؤلاء جميعاً هو التلويح بعقوبات مشدّدة لا أكثر. لكن السؤال الذي يُطرح، والمرتبط بالتوجّه الأميركي الجديد لـ»التخفّف» من أعباء الشرق الأوسط، والتركيز على المواجهة المحتدمة في آسيا ــــ المحيط الهادئ، هو عن مدى إمكانية ترجمته عملياً إذا لم يتمّ تخفيض التوتّر في الإقليم في الحدّ الأدنى. فاستمرار سياسة العقوبات المشدّدة على إيران سيعني استمراراً، وربّما تصاعداً للتوتّرات في طول الإقليم وعرضه. وإذا أضفنا إلى ما تَقدّم، اختلاف السياق الدولي الراهن عن ذلك الذي ساد قبل 2015، وارتفاع حدّة المجابهة مع الصين وروسيا، ومصلحة هذَين البلدين في دعم موقف إيران في هكذا ظروف، فإن الاستنتاج الذي يفرض نفسه هو أن واشنطن «ستنجذب» مجدّداً إلى المنطقة، بحسب التعبير المستخدم من قِبَل الخبراء الأميركيين.
المخرج الأكثر أماناً بالنسبة إليها هو على الأقلّ فكّ الاشتباك مع طهران من خلال العودة إلى الاتفاق النووي، ومن دون شروط تعجيزية. أيّ خيارات أخرى تتضمّن المراوغة واستخدام سلاح العقوبات لفرض إملاءات على إيران، ستفضي إلى مضيّ الأخيرة في المزيد من التخصيب وصيرورتها دولة ــــ عتبة. العديد من المسؤولين الصهاينة، وبينهم إيهود باراك، يعتقدون أنها أصبحت كذلك. القادة الغربيون الأربعة، جو بايدن وبوريس جونسون وإيمانويل ماكرون وأنجيلا ميركل، منحازون إلى إسرائيل أيديولوجياً ومصلحياً، أي انطلاقاً من حسابات سياسية وانتخابية لأوّل ثلاثة بينهم، لكنهم ليسوا في وارد شنّ حرب جديدة لأجلها، كما فعلت إدارة بوش الابن ضدّ العراق في 2003، في زمن انقضى. جُلّ ما يستطيعونه هو إطلاق التصريحات الاستعراضية التي لن تفتّ من عضد طهران ومن تصميمها على الدفاع عن مصالحها الوطنية العليا، وفي مقدّمتها حقّها في الحصول على التكنولوجيا النووية التي تفسح في المجال أمام التطوّر النوعي في ميادين العلوم والتكنولوجيا والاقتصاد.