مات كولن باول، مجرمُ الحرب الذي باع بتمثيليّته في مجلس الأمن كذبة امتلاك بغداد أسلحة الدمار الشامل، والتي تبعها الغزو والدمار الشامل للعراق. عنجهية الولايات المتحدة في عام 2003 بدت في أوجها، إذ إنها أعقبت عقداً من التفوّق الإمبريالي المطلَق على حساب شعوب العالم، بعدما انهار غريمها في الحرب الباردة. كانت الولايات المتحدة قد سبق وأن غزت أفغانستان، وقرّرت أنه حان وقت الاستيلاء على نفط أقاليم بلاد ما بين النهرين بعد تجويعها على مدى اثنتَي عشرة سنة. هَمّ قادة العالم الحرّ في حينها بتنفيذ مشروعٍ خَطّه عتاة المحافظين الجدد في واشنطن، أمثال ريتشارد بيرل، وأسموه الشرق الأوسط الجديد، وهو نفسه الذي بشّرتنا بأوجاع ولادته خليفة باول، كوندوليزا رايس، عندما وقفت في يوم من أيام 2006 إلى جانب فؤاد السنيورة الدامع أو المزهوّ، لا يهمّ، فهو مهزوم في كلتا الحالتين. وبين لحظة زهوِ باول بالدم العراقي الآتي في مجلس الأمن، وزهوِ كوندوليزا بأوجاعنا المبرّرة من أجل تمرير مشروع أسيادها، سنوات ثلاث حسب التقويم الغريغوري، لكنها دهر في التحقيب التاريخي. فتدمير العراق كان آخر «انتصار» لعسكر الإمبراطورية الذي ولّى زمن انتصاراته مذّاك، ولم ينجح في أيّ تدخّل عسكري من بعدها، لا مباشر ولا بالوكالة. تتخبّط اليوم الإدارة الأميركية بشكل غير مسبوق، على الأقلّ منذ أن كان كولن باول يبرّر ارتكاب مجزرة ماي لاي في فيتنام حيث قَتل الجيش الأميركي أكثر من 500 قروي بعد أن نكّل بهم. ساهمت تغطية باول للمجزرة التي كُلّف التحقيق فيها، في أن يرتقي في واشنطن ليسطع نجمه جنرالاً في البنتاغون، يشدّ زناد المجازر في حرب الخليج الأولى وفي بنما، ثم فنّاصاً باسم المنظومة العسكرية الإمبريالية في وزارة الخارجية. هذا التخبّط داخلي كما هو خارجي. في الداخل، مشاكل بنيوية تزعزع الدولة العميقة. من ناحية، تحاول الدولة طمس التجربة الترامبية، لكن يبدو أنها تتّبع استراتيجية الحجْب والتجاهل مع رئيس سابق لن يُسمح له بالعودة، وإن كانت المؤشّرات تنذر بأن الترامبية تتعاظم على رغم محاولات إخفاء ترامب. تجري الآن محاولة لتحميل أحدٍ ما مسؤولية «ثورة الكابيتول»، لأنه لا يمكن أن ينجح متظاهرون في اجتياز حرس المجلس في واشنطن في دقائق، في حين فشل ثوار بيروت في فعل ذلك في محاولات امتدّت أشهراً. يتمّ تصويب السهام على الأب الروحي للترامبية، ستيف بانون. لكن كلّ هذا لن يجدي لأن المجتمع الأميركي منقسم بل متفتّت، وبدأ يضيق ذرعاً بإدارة بايدن التي كان من المفترض ألّا تكون كسابقتها. يحتاج رصّ الصفوف داخلياً إلى حرب على غرار الحرب على المخدّرات الريغنية، والتي استهدفت شعوب جنوب القارة الأميركية، أو الحرب على الإرهاب البوشية التي استهدفت شعوب منطقتنا. هل يسمّونها الحرب على الأحزمة والطرقات يا تُرى؟
قرّرت الإدارة الأميركية إعادة التموضع نحو الشرق حيث الخطر الداهم. والخطر هنا هو تعاظم القوّة الاقتصادية لجمهورية الصين الشعبية. لكن فعلياً، هذه الحركة لن تقدّم ولن تؤخّر. إن كان هناك ما يمكن فعله، فقد فاتت فرصته منذ عقدَين من الزمن على الأقلّ. هذه الحالة هي كمَن لم يلاحظ أن لبنان مفلس إلّا عندما تخلَّف عن سداد اليوروبوندز، لكنها على مستوى كوني. حين وقف جورج بوش الثاني على متن حاملة طائرات حربية ليحتفي بأن «المهمة أُنجزت» في الأول من أيار من عام 2003، لم يكن يدري أن إمبراطوريته تقف على قمّةٍ حافية لِهاوية.
إن كان هناك ما يمكن فعله بوجه الصين، فقد فاتت فرصته منذ عقدَين من الزمن على الأقلّ

بالمناسبة، بعد ثماني سنوات، خرج باراك أوباما ليل الأوّل من أيار للاحتفال بقتل أسامة بن لادن، وكأن لدى إمبراطورية رأس المال عقدة نفسية من «الأول من أيّار». على كلٍّ، شرَح إسحاق نيوتن قوانين الجاذبية، وباختصار، عندما تهوي في هاوية يتسارع سقوطك، ولن يوقفك إلّا الارتطام بالقعر. في السنين التي لهثت فيها الولايات المتحدة خلف شرق أوسطها الجديد، هبّت وانتشرت الثورة البوليفارية وما سُمّي بالمدّ الزهري في «حديقتها الخلفية»، بينما أخذت الصين راحتها في القفزات النوعية على مستويات عدّة. أوروبا كانت تختبر اتّحادها الذي شهد تعاظم اقتصاد ألمانيا على حساب كلّ الشركاء المتّحدين الآخرين تقريباً. تسارعت الأحداث وقاوم مَن قاوم، وإذ بالشرق الأوسط الجديد يتحوّل إلى مستنقع، أو رمال متحرّكة بما أنها التشبيه الأنسب نظراً لطبيعة الأرض، لقوّات واشنطن وحلفائها الذين يخوضون الحروب بأسلحة مجمع الدولة العميقة الصناعي العسكري. قد تكون جبال ووديان تورا بورا أصعب وأقسى، لكن إذلال نخبة الكتيبة الإسرائيلية للجيش الإمبريالي على سفوح تلّة مارون الراس وفي وادي الحجير عام 2006، كان أوّل صورة جليّة تُظهر أن احتفالية بوش بإنجاز المهمة سابقة لأوانها، لا بل هفوة تاريخية سوف تدرَّس للأجيال المستقبلية عندما تعرّج على «الحقبة الأميركية».
ما حصل بعد بوش هو تحصيل حاصل. أوباما بدأ إعادة التموضع نحو الشرق، وباشر بتسليم المنطقة للوكلاء، وهؤلاء أثبتوا أنهم لا شيء سوى حسابات مصرفية يقتطعون الشيكات لكلّ مَن هو مستعدّ لأن يخوض حروبهم عنهم، من تكفيريّي مساجد بريطانيا في سوريا، إلى المرتزقة الكولومبيين في اليمن. وإن كانت الواجهة التي وفّرها أوباما قد أخفت بعض مظاهر السقوط الحرّ كونه «شاب حليوة وأفندي»، ولا يشبه مَن سبقه على رأس الإمبراطورية، فمَن خلَفه حطّم هذا الوهم، وأظهر الوجه الحقيقي للبيت الأبيض من ترامب القرف إلى بايدن الخرف. وهؤلاء هم رأس الهرم، فإذا أردتم أن تدركوا مدى الانحدار الأميركي، ما عليكم إلا أن تتلوا أسماء كلّ من خلَف كولن باول بصوتٍ عالٍ.
لكن لا تيأسوا إن كنتم تعقدون الأمل على واشنطن… هنري كيسنجر لم يمُت بعد.