إذا كانت الولايات المتحدة قد استطاعت من خلال «عقيدة مونرو»، التي ولدت في عشرينيات القرن التاسع عشر، صدّ الهجمة الأوروبية، وفي وقت لاحق السوفييتية، على دول أميركا اللاتينية، فإن هذه العقيدة، التي لا تزال معتمَدة إلى اليوم، لا تبدو بالفاعلية نفسها في وجه التمدّد الصيني في القارّة الجنوبية، حيث استطاعت بكين، في غضون عقدين من الزمن فقط، تثبيت أقدامها كأحد أهمّ الشركاء هناك. وهو ما يُعزى إلى عاملَين أساسيَين: أوّلهما، العمل الصيني الدؤوب على تنفيذ مشاريع اقتصادية وتنموية تخدم مبادرة «الحزام والطريق»؛ وثانيهما تراجع القدرة الأميركية على ضبط إيقاع التطوّرات في «الجنوب». وعلى رغم أن واشنطن لم توفّر جهداً لمحاصرة النفوذ الصيني المتنامي في العالم، إلّا أنها حتّى اليوم، لم تستطع كبحه في «حديقتها الخلفية»، وهو ما تظهره أرقام التجارة اللاتينية بين الأخيرة وبكين، والتي توسّعت من 12 مليار دولار عام 2000 إلى أكثر من 300 مليار دولار في عام 2018.
دبلوماسية شي
يعود الاهتمام الصيني بأميركا اللاتينية إلى أكثر من عقدين، في إطار عكوف بكين على تأسيس جبهة جديدة في مجال التنمية الاقتصادية العالمية. ركّزت الصين، ابتداءً، على تعزيز التجارة مع بلدان هذه المنطقة؛ إذ عمدت إلى استيراد النفط والخامات المعدنية والسلع الصناعية، مقابل تصديرها منتجاتها الصناعية والإلكترونية والاتصالية وغيرها إلى تلك الدول، ومن ثمّ، بدأت بطرح مشاريع بنى تحتية وإنمائية. ومع بداية الأزمة المالية العالمية عام 2008، ازداد اهتمام الحكومة الصينية بتطوير علاقاتها الاقتصادية مع القارة الجنوبية، وهو ما ظهر بوضوح في ورقة السياسة التي أصدرتها بكين عام 2008، وجاء فيها أن الجانبين «يتمتّعان بصداقة عريقة ويواجهان مهمّة مشتركة لتحقيق التنمية»، وأن الصين تسعى إلى «إقامة شراكة شاملة وتعاونية تتميّز بالمساواة والمنفعة المتبادلة والتنمية المشتركة»، في ما بدا استثماراً في حاجة دول أميركا اللاتينية إلى التنمية الاقتصادية التي لم يُعِرها «الجار» الشمالي بالاً.
ومع صعود نجم الرئيس الصيني، شي جين بينغ، عام 2013، بدأ بتطبيق ما يُعرفّه الخبراء بـ«دبلوماسية شي». إذ خلال الأعوام الستة الماضية، زار شي أميركا الجنوبية 11 مرّة، واستطاع توقيع عدد كبير من الاتفاقيات مع عدد من الدول اللاتينية. وفي عهده، أصبحت الصين ثاني أكبر شريك تجاري للقارة، بعد الولايات المتحدة، كما سجّل «الجنوب» أسرع مصادر الصادرات نموّاً بالنسبة إلى الصين، لترتفع التجارة بينهما بنسبة 18.9% على أساس سنوي، وتصل إلى 307.4 مليار دولار في 2018، وفق وكالة «شينخوا» الصينية. وخلال تلك السنوات أيضاً، أسّس شي «منتدى التعاون» بين الصين ودول مجموعة أميركا اللاتينية والكاريبي (سيلاك)، التي تضمّ في عضويتها 33 بلداً. وتمثّلت مهمّة ذلك المنتدى، كما قالت الحكومة الصينية، في «الارتقاء بالعلاقات بين الجانبين نحو آفاق جديدة من التعامل الشامل». وبالفعل، عام 2015، تعهّدت الصين برصد 500 مليار دولار للنشاط التجاري، و250 مليار دولار للاستثمارات المباشرة في دول «الجنوب»، في غضون السنوات الـ10 المقبلة.

خيارات واشنطن
في نهاية المطاف، استطاعت هذه الجهود الصينية الحثيثة توسيع نفوذ بكين الاقتصادي في المنطقة، وهو ما أثار قلق واشنطن، خصوصاً أن النشاط الصيني لم يقتصر على دول يسارية، بل شمل أيضاً دولاً أخرى تُعتبر حليفة للولايات المتحدة، كما البرازيل وكولومبيا والسلفادور. ومن هنا، بدت الحاجة الأميركية ملحّة إلى استجابة «متناسبة»، سرعان ما تمظهرت من خلال محاولة عرقلة مشاريع بكين، عبر تسليط ضغوط سياسية على «الحلفاء» للتراجع، بدعوى أن تلك المشاريع ليست سوى «قروض مفترسة» تهدّد الأمن القومي والسيادة في دول «الجنوب»، وفق تصريحات مسؤولي البيت الأبيض، بل إن مسؤولاً أميركياً كبيراً في وزارة الخارجية وصف «توغّل» الصين في «الفناء الخلفي» لواشنطن، لمجلة «تايم»، بالقول إن «هذا جزء من الخطة العالمية للحزب الشيوعي الصيني لتصدير المثل الصينية والممارسات السيئة خارج منطقة آسيا والمحيط الهادئ». على أن الضغوط المذكورة لا يبدو، إلى الآن، أنها آتت أُكُلها، خصوصاً في ظلّ التخبّط الذي لا يزال يسم السياسية الأميركية إزاء الدول اللاتينية، مع تحويل واشنطن تركيزها في السنوات الأخيرة «إلى الشرق الأوسط وآسيا اللتين أصبحتا أكثر أهمية من الناحية الاستراتيجية للولايات المتحدة» وفق الباحث الأرجنتيني، باتريسيو غيوستو. كما أن السياسات العدائية التي انتهجتها إدارة دونالد ترامب تجاه أميركا اللاتينية، إن كان من خلال محاولتها قلْب الأنظمة اليسارية وتشديد العقوبات عليها، أو عبر السياسات الحمائية التي أضعفت اقتصادات بلدان مِن مِثل المكسيك والأرجنتين والبرازيل، أسهمت في فتح مزيد من الأبواب أمام الصين.
إزاء ذلك، يراهن البعض على الإجراءات التي ستتّخذها إدارة جو بايدن للحدّ من التمدّد الصيني في «الفناء الخلفي» للولايات المتحدة. وفي هذا الإطار، يرى المحلّل في مركز «CSIS»، دانيال روند، أن مشروع قانون الابتكار والمنافسة الذي وافق عليه الكونغرس في حزيران من العام الجاري، يمكن أن يشكّل ركيزة لتحجيم الدور الصيني في الجنوب، خصوصاً أن القانون يركّز على زيادة رأس المال المقترَح لـ«بنك التنمية للبلدان الأميركية»، وهي خطوة استراتيجية من شأنها «زيادة التمويل المتعدّد للمنطقة». ويقترح روند استغلال «قمّة الأميركيتين 2022» التي تستضيفها الولايات المتحدة بداية الصيف المقبل، للبدء بخطوات عملية، لافتاً إلى أن «المعطيات الحالية تحتّم على الدول اللاتينية مواصلة التعاون مع بكين. لكن بإمكان قانون الابتكار توفير بدائل اقتصادية تنافسية، بما يتماشى مع زيادة مصالح واشنطن قصيرة وطويلة الأجل».


الوباء يعزّز حضور بكين
مثّلت أزمة تفشّي فيروس «كورونا» فرصة للصين لتعزيز حضورها في أميركا الجنوبية، مستفيدة من الغياب الأميركي في هذا المجال، وهو ما أثار اتهامات لها بالسعي إلى «تعزيز نفوذها وتلميع صورتها». ومن ذلك ما نقلته شبكة «nbcnews» الأميركية عن مدير قسم أميركا اللاتينية في معهد «أتلانتيك كاونسل»، جيسون ماركزاك، من أن «الصين استغلّت انتشار فيروس كورونا لاستعراض عضلاتها في المنطقة»، وأنها «سعت إلى تحويل نفسها من كونها أساس مشكلة كوفيد 19، إلى الحلّ الوحيد للفيروس». لكن الشبكة نفسها أشارت، في تقرير في أيار الماضي، إلى أن الصين أرسلت في الأشهر الأخيرة أكثر من 165 مليون جرعة لقاح صينية الصنع إلى أميركا اللاتينية، مقابل شحن الولايات المتحدة «عدداً قليلاً من اللقاحات». وتطرّقت إلى وعود الرئيس الأميركي، جو بايدن، بإرسال 80 مليون جرعة من اللقاح الأميركي لم يُحدَّد موعدها حتّى الآن، لافتة إلى توصية أعضاء في الكونغرس والخبراء الإقليميين بالاستجابة إلى «حاجة واشنطن الملّحة إلى اللحاق بالصين والبدء في توفير اللقاحات للجنوب».