تجد حكومة نفتالي بينت نفسها، في ظلّ جملة تحوّلات لغير صالح إسرائيل، مضطرة إلى تبنّي خيارات أكثر واقعية في مواجهة إيران.ومن هنا، جاء حديث بني غانتس عن أن الكيان العبري مستعدّ للتعايش مع اتفاق نووي جديد، شريطة توافر خطط طوارئ يمكن تفعيلها عند الحاجة. لكن معضلة تل أبيب الدائمة هي أن «الحدّ الأدنى الجيد بالنسبة إلى طهران ليس جيداً» بالنسبة إليها، وهو ما يضاعف قلقها من أن يكون الأوان قد فات أصلاً لإحداث تعديلات في اتّجاه معادلات القوة

لم تكن الرسالة التي تعمّد وزير الأمن في كيان العدو، بني غانتس، توجيهها في شأن إمكانية تعايش إسرائيل مع اتفاق نووي جديد، إلّا تعبيراً عمّا خلصت إليه الحكومة الحالية برئاسة نفتالي بينت خلال الأشهر الماضية، بعد دراستها نتائج الخيارات التي تبنّتها حكومة بنيامين نتنياهو في مواجهة إيران. كما لم يكن إعلانه موافقته على «النهج الأميركي الحالي بإعادة البرنامج النووي الإيراني إلى الصندوق»، في إشارة إلى مساعي واشنطن الدبلوماسية، إلّا تجسيداً للعِبر التي استُخلصت من فشل تلك الخيارات التي هدفت إلى كبح البرنامج المذكور (بالحدّ الأدنى، فيما الحدّ الأقصى كان إسقاط النظام الإسلامي في طهران). مع ذلك، كان الموقف الإسرائيلي المبدئي من الملفّ الإيراني ولا يزال هو نفسه، إذ ليس ثمّة أيّ خلاف حوله بين الحكومتَين الحالية والسابقة، وهو ما يُبقي الهوّة قائمة مع الجانب الأميركي، لكن الحكومة الجديدة ورثت وقائع إسرائيلية وإقليمية ودولية، وجدت نفسها إزاءها مضطرة إلى التعامل بواقعية.
فهي اليوم تواجه تطوّراً نووياً إيرانياً إلى مستويات غير مسبوقة، وصّفه بينت، في حديث إلى موقع «واي نت» العبري عشية كلمته المرتقبة في الجمعية العامة للأمم المتحدة بعد حوالى أسبوعين، بأنه «في السنتين الأخيرتَين تقدّمت إيران إلى نقطة هي الأكثر تطوّراً في التاريخ باتجاه القنبلة (النووية). وقبل تشكيل الحكومة (برئاسته)، كانت تخصّب بدرجة 60%، وتجاوزت الخطّ الأحمر منذ زمن». كذلك، ثمّة تحوّلات في المعادلات الإقليمية، عزَّزت قوة ردع محور المقاومة، وما عبور السفينة الإيرانية البحار تحت ظلال صواريخ «حزب الله»، بهدف كسر الحصار الأميركي، وصولاً إلى سوريا ولبنان، إلّا أحد تجلّيات تلك التحوّلات. يُضاف إلى ما تَقدّم، أن إدارة جو بايدن ورثت فشل سياسة «الضغوط القصوى» التي انتهجتها إدارة دونالد ترامب ضدّ إيران، وهي تصرّ حتى الآن على أولوية الخيار الدبلوماسي للتوصّل إلى اتفاق نووي. وفي هذا الإطار، يندرج تلميح غانتس إلى فشل الرهان على مفاعيل خروج إدارة ترامب من «خطّة العمل المشتركة الشاملة»، إذ إن «إيران تُعزِّز على الدوام منذ ذلك الوقت جهودها النووية». وفي الوقت نفسه، تحاول حكومة بينت تفادي اللجوء إلى الخيارات الدراماتيكية التي يمكن أن تفجّر المنطقة، والتي تجنّبتها حكومة نتنياهو في ذروة تهديداتها لطهران، ولم تجرؤ على الإقدام عليها.
تجد حكومة بينت نفسها مضطرة لبلورة خيارات بديلة أكثر واقعية في مواجهة إيران


إزاء ذلك، يصبح مفهوماً توجّه حكومة بينت إلى بلورة خيارات بديلة أكثر واقعية، وهو ما يدلّ عليه النقد الدائم الذي يوجّهه رئيس الوزراء إلى سياسات سلفه في مواجهة إيران، وتحميله مسؤولية ما آلت إليه الأوضاع. ومن بين تلك الخيارات البديلة، اشتراط غانتس، للتكيّف مع أيّ اتفاق نووي جديد، بلورة الولايات المتحدة «خطة ب»، تتضمّن فرض عقوبات اقتصادية واسعة على الجمهورية الإسلامية، خاصة أن هناك شكوكاً إسرائيلية، عبَّر عنها غانتس، إزاء إمكانية التوصّل إلى اتفاق يكبح التقدّم النووي الإيراني. وأشار غانتش إلى أنه ليست لدى إسرائيل القدرة على قيادة خطّة من هذا النوع، إذ يحتاج الأمر إلى «تعاون دولي من أجل فرض عقوبات على طهران، كما فعلت الولايات المتحدة»، في إقرار مباشر من قِبَل رأس هرم المؤسسة الأمنية الإسرائيلية بمحدودية خيارات كيان العدو الذاتية، وبكون الولايات المتحدة تؤدّي دوراً بالوكالة عن إسرائيل في هذه القضية. لكن حتى لو تمّت الاستجابة لمطالب تل أبيب، تبقى المشكلة الإسرائيلية قائمة، فـ«الحدّ الأدنى الجيد بالنسبة إلى إيران ليس جيّداً لإسرائيل»، كما ورد على لسان وزير الخارجية الإسرائيلي، يائير لابيد. ومن هنا، جاء حديث غانتس عن «خطّة ج» تتضمّن عملية عسكرية إسرائيلية يستعدّ لها الجيش، وتهديده بأنه «إذا حشرونا، سنصل إلى هناك، نحن لسنا الولايات المتحدة، لكن لدينا قدراتنا»، في إشارة إلى أن إسرائيل لن تلجأ إلى هذا «الحلّ» إلّا في مرحلة اللاخيار، مع تحذير غانتس من أن إيران بعيدة من شهرين إلى ثلاثة أشهر عن امتلاك القدرة على إنتاج قنبلة نووية.
وكما في كلّ مقاربة إسرائيلية للتهديد الإيراني، يَحضر المفهوم الذي تُجمع عليه المؤسّستان السياسية والأمنية، والذي يمثّل موضع خلاف مع الإدارات الأميركية المتوالية. إذ شدّد غانتس على ضرورة أن «تخاف إيران من الولايات المتحدة وشركائها، وأن تفهم أنهم جدّيون» في تهديداتهم، وهو ما كان يكرّره نتنياهو، تأسيساً على قناعة بأن إيران مدركة أن القيادتَين في واشنطن وتل أبيب لا تجرؤان على اتّخاذ قرارات عدوانية مباشرة واسعة ضدّها، وعلى هذا الأساس تواصل سياساتها النووية والإقليمية نفسها. وعليه، تطالب إسرائيل على الدوام الولايات المتحدة بأن تكون أكثر اندفاعاً في مواجهة طهران، بما يولّد قناعة لدى الأخيرة بأن واشنطن جادّة في ذلك، خصوصاً بالنظر إلى ما تملكه الولايات المتحدة من قدرات عسكرية هائلة، من شأنها إخافة الإيرانيين، من وجهة النظر الإسرائيلية. إلا أن هناك حقيقة أخرى تساهم في تعميق المأزق الإسرائيلي، وهي أن إيران وحلفاءها يزدادون قوة بكلّ المعايير، فيما الولايات المتحدة أبعد ما تكون عن الاستعداد للتورّط في مواجهات كبرى، وهو ما يعني أن الرهان على هذا السيناريو يزداد ضعفاً. ومن هنا، تخشى مؤسسات التقدير والقرار في كيان العدو من أن يكون الأوان قد فات لإحداث تعديلات في اتّجاه معادلات القوة، وأن تجد نفسها أمام سيناريوات أشدّ خطورة على أمنها القومي، بعد أن يكون قد تمّ تكريس موقع إيران كدولة نووية، مع ما لهذا من تداعيات استراتيجية.