يومان كانا قد مرّا على واقعة «الكابيتول» الشهيرة، في السادس من كانون الثاني 2021، حين ارتأى رئيس هيئة الأركان المشتركة، الجنرال مارك ميلي، مناسباً السير في تدابير «سرّية» يحدُّ بموجبها من احتمال لجوء رئيسه، دونالد ترامب، إلى إطلاق حرب نووية. في كتابه الذي يصدر قريباً بعنوان «خطر»، وهو الثالث الذي يغطّي رئاسة ترامب بعد «خوف» (2018) و«غضب» (2020)، يروي الصحافي بوب وودورد، بمشاركة مراسل «واشنطن بوست» روبرت كوستا، كيف أن ميلي ظلّ متأهّباً، ليقينه من أن الوضع الذهني لترامب تدهور بشكل خطير في أعقاب خسارته الانتخابات، فبات مهووساً، يصرخ بالمسؤولين ويبني من حوله واقعاً موازياً ليعزّز روايته المتضخمة حول «مؤامرة انتخابية» دُبِّرت لإطاحته. على أن المقتطفات التي نشرتها صحيفة «واشنطن بوست» وشبكة «سي أن أن» الإخبارية، توضّح أن الجنرال ركن إلى حدسه أوّلاً، وإلى معرفته بمستويات جنون ترامب ثانياً. لهذا، أحسّ ميلي بأن موقعه يملي عليه اتّخاذ إجراءات غير اعتيادية، من مثل الدعوة إلى اجتماع سرّي في مكتبه في «البنتاغون»، في الثامن من كانون الثاني 2021، للطلب إلى كبار المسؤولين العسكريين عدمَ تلقّي أوامر من أيّ شخص. الكتاب الذي يبني روايته استناداً إلى إفادات 200 مسؤول أميركي رفضوا الكشف عن هويتهم، يرسم صورةً قاتمة عن أيّام ترامب الأخيرة في البيت الأبيض، وعن محاولاته بكلّ الوسائل التشبُّث بالسلطة.
«الديموقراطية الفوضوية»
عزّزت ملاحظات ميلي الخاصة حيال سلوك ترامب غير المنتظم، من مخاوفه التي فاقمتها أحداث السادس من كانون الثاني. مخاوف اضطرّ إزاءها إلى إجراء اتصالين هاتفيين بنظيره الصيني لي تشو تشنغ، الأول في 30 تشرين الأول، قبيل الاستحقاق الرئاسي، وفي الثامن من كانون الثاني، بعد يومين من اقتحام مقرّ الكونغرس. طمأنه بدايةً إلى أن «الدولة الأميركية مستقرّة... كلّ الأمور ستسير بشكل جيّد. لن نهاجمكم ولن نشنّ عمليات عسكرية ضدّكم». ثم عاود الكرة بعد شهرين: «كلّ الأمور تسير بشكل جيّد... لكنّ الديموقراطية تكون فوضوية أحياناً».
بدأت الفوضى تلقي بثقلها على الجنرال المهموم، وفي أحد الأيّام تلقّى اتصالاً من رئيسة مجلس النواب، نانسي بيلوسي، تقول له: «إذا لم يتمكّنوا من منعه من الهجوم على مبنى الكابيتول، فمَن يدري ماذا سيفعل؟ هل فعل أيّ مسؤول في البيت الأبيض شيئاً سوى تقبيل مؤخرته؟ أنت تعلم أنه مجنون، وأنه لطالما كان مجنوناً». بعد هذه المكالمة، طلب ميلي من مديرة وكالة الاستخبارات المركزية جينا هاسبل، ومن قائد الاستخبارات العسكرية الجنرال بول ناكاسون، مراقبة تصرّفات ترامب لرصد أيّ سلوك غريب. وبحسب مؤلفَيْ الكتاب «قد يعتبر البعض أنّ ميلي تجاوز صلاحياته ومنح نفسه سلطات مفرطة»، لكن الجنرال كان مقتنعاً بأنه يفعل ما يقتضيه الأمر لتجنّب أيّ إخلال بالنظام العالمي، وتجنّب «اندلاع حرب عرضية مع الصين أو غيرها» وضمان «عدم استخدام السلاح النووي».
يكشف الكتاب أن ترامب لا يزال غاضباً من الجمهوريين الذين ألقوا باللوم عليه في أحداث «الكابيتول»


لكن عاملاً آخر ظلّ يؤرّق رئيس هيئة الأركان؛ بعد خسارة ترامب الانتخابات، اكتشف ميلي أن الرئيس وقّع أمراً عسكرياً لسحب جميع القوات الأميركية من أفغانستان بحلول 15 كانون الثاني 2021، أي قبل أيّام من مغادرته البيت الأبيض. وتمّت صياغة المذكّرة سرّاً من قِبَل اثنين من الموالين للرئيس السابق. وعلى رغم أنها أُلغيت، لم يستطع الجنرال تجاوز فكرة أن رئيسه انتهى إلى الالتفاف على كبار مستشاريه العسكريين. ولعلّ أكثر ما أثار خشية مسؤولي الأمن القومي، إقدام ترامب على إثارة صراع محلّي أو خارجي لصرف الانتباه عن خسارته المحقَّقة. وحين رفض التنازل عن السلطة في تشرين الثاني 2020، قالت هاسبل لميلي: «نحن في طريقنا إلى انقلاب يميني. كلّه جنون. إنه يتصرّف كطفل في السادسة من عمره انتابته نوبة غضب»، معربةً عن قلقها من أن يهاجم ترامب إيران. لكن المستغرَب أن بعضَ أكثر مستشاريه ولاءً، كانوا قلقين، وهو ما يبيّنه ما قاله وزير الخارجية مايك بومبيو، لميلي، من أن ترامب «في مكان مظلم للغاية».

يوم الحساب
كان لميلي هدف وحيد، وفق ما يورد الكاتبان: ضمان انتقال سلمي للسلطة في 20 كانون الثاني. في كتابهما، يروي وودورد وكوستا كيف رفض ترامب التنازل عن السلطة، وكيف أن مَن حوله سعوا - وفشلوا - إلى احتواء يأسه. في اليوم التالي للانتخابات، 4 تشرين الثاني 2020، بدا ترامب مستعدّاً للاعتراف بالهزيمة. سأل مستشارته كيلي آن كونواي: «كيف خسرنا لمصلحة جو بايدن؟». لكن يبدو أن رأيه بدأ يتبدّل بعد التواصل مع بعض المقربين منه، بمَن فيهم محاميه رودي جولياني، إلى أن تبنّى نظرية «تزوير الانتخابات». من جهته، لم يشأ صهره جاريد كوشنر التدخّل، فيما حاول المدعي العام، ويليام بار، التحدّث إليه لإقناعه بأن مزاعم الاحتيال زائفة: «المشكلة هي أن هذه الروايات المتعلّقة بآلات التصويت مجرد هراء»، قال بار، ليردّ عليه ترامب: «فريقك عبارة عن مجموعة من المهرّجين».
في هذه الأثناء، انبعثت شخصية رئيسة من الأيام الأولى لرئاسة ترامب: مستشاره الاستراتيجي ستيف بانون، الذي يبدو أنه لعب دوراً بارزاً في الأحداث التي سبقت موقعة الكونغرس. ففي 30 كانون الأول، أقنع بانون ترامب بالعودة إلى البيت الأبيض من منتجعه في مار-آ-لاغو، للتحضير للسادس من كانون الثاني، التاريخ الذي سيصدّق فيه الكونغرس على نتائج الانتخابات. قال بانون لترامب: «عليك أن تعود إلى واشنطن وأن تعود اليوم. عليك استدعاء بنس من منحدرات التزلّج وإعادته إلى هنا اليوم. هناك أزمة». وأخبره أن هذا اليوم يشكّل «لحظة الحساب... سنقوم بدفن بايدن في السادس من كانون الثاني». استجابةً لنصائح مستشاره السابق، وقعت مواجهة عنيفة في المكتب البيضاوي، في 5 كانون الثاني، عندما حاول ترامب الضغط على بنس لإلغاء نتائج الانتخابات، لكن الأخير رفض: «لا... هذا غير ممكن». صرخ ترامب: «لا لا لا! أنتَ لا تفهم يا مايك. يمكنك فعل هذا. لا أريد أن أكون صديقك بعد الآن إذا لم تفعل ما أطلبه منك». ولمّا فشل في إقناعه، عاود الكرّة في صباح اليوم التالي: «إذا لم تفعل ما طلبته، أكون قد اخترت الرجل الخطأ قبل أربع سنوات». وعلى رغم أن بنس وقف في وجه ترامب، يكشف الكتاب كيف أنه بعد أربع سنوات من الولاء المطلق، وجد صعوبة كبيرة في اتخاذ القرار. بحسب وودورد وكوستا، تواصل نائب الرئيس مع دان كويل، الذي كان نائباً للرئيس جورج بوش الأب، يطلب نصيحته. وبعدما سأل مراراً عمّا إذا كان في مقدوره فعل شيء، قال له كويل: «مايك... لا شيء. صفر. إنسَ الأمر. ضعه جانباً».
في أحد جوانبه، يكشف الكتاب أن ترامب لا يزال غاضباً من الجمهوريين الذين ألقوا باللوم عليه في أحداث «الكابيتول»، بما في ذلك زعيم الأقلية في مجلس النواب، كيفن مكارثي. «هذا الرجل كان يتّصل بي كل يوم، وتظاهر بأنه أفضل صديق لي... ليس رجلاً صالحاً. نزل كيفن لتقبيل مؤخرتي لمساعدته في استعادة مجلس النواب»، قال ترامب. وينتهي الكتاب بتكهّن حلفاء الرئيس السابق في شأن خططه لعام 2024. وينقل عن السناتور الجمهوري، ليندسي غراهام، قوله: «إذا كان يريد الترشّح، فسيتعيّن عليه التعامل مع مشاكله الشخصية... لدينا كابتن فريق متضرّر للغاية». لكن في محادثة مباشرة مع ترامب، قال غراهام لترامب: «لقد تم شطبك من الموت بسبب السادس من كانون الثاني. الحكمة التقليدية تقول إن الحزب الجمهوري انهار تحت قيادتك... إذا عدت إلى البيت الأبيض، ستكون هذه أكبر عودة في التاريخ الأميركي».