لم تُخفِ تل أبيب استياءها وقلقها من انسحاب الولايات المتحدة الأميركية من أفغانستان، وتأثيره السلبي على مجمل المنظومة الداعمة لوجود إسرائيل في المنطقة. وهو انطباع لم يولّده القرار نفسه فقط، ولا المضيّ في تنفيذه، بل وأيضاً طريقة التنفيذ، التي ضاعفت التأثيرات السلبية على حلفاء أميركا وشركائها في المنطقة. وإذا كانت السمة الغالبة على الموقف الرسمي الإسرائيلي هي الصمت، إذ لا فائدة من تعليقات علنية تُعمّق الخسارة، وتظهّر الخشية من المستقبل، وترفع سقف توقّعات أعداء الكيان العبري، إلا أن الحدث بحجمه وتداعياته وتأثيراته الاستراتيجية فرض نفسه على الإعلام الإسرائيلي، الذي تكفّل بتظهير موقف تل أبيب، ونظرتها المتشائمة إلى الآتي.«لا يوجد توصيف غير الهروب والفرار من أفغانستان»؛ «ما حصل أمرٌ مقلق لحلفاء أميركا في المنطقة ولإسرائيل بشكل خاص»؛ «أثبتت أميركا لحلفائها أنه لا يمكن الاعتماد عليها، وهي تلقي بهم على حافة الطريق وفقاً لمصالحها الخاصة»؛ «الانسحاب كما جاء، يُظهر ضعف أميركا ودورها في العالم»؛ «باتت إيران تنظر إلى أميركا على أنها بيت من ورق، وليس فقط نمر من ورق»؛ «إذا كانت أميركا تراهن على إمكان التوصّل إلى اتفاق (نووي) مع إيران عبر الضغوط، فإيران بعد الانسحاب لن تسارع لتستجيب لضغوطها»؛ «الطريقة والصورة اللتان خرجت بهما الولايات المتحدة من أفغانستان، فاقمتا المساوئ الاستراتيجية للانسحاب»؛ «يعمّق الانسحاب قلق حلفاء أميركا من أنهم خسروا مرتكزهم الاستراتيجي، مقابل خصومهم وأعدائهم». تلك عيّنات ممّا ورد في الإعلام العبري حول الحدث الأفغاني، كفيلة بإعطاء صورة حول ما تهجس به إسرائيل لناحية تأثيرات الانسحاب الأميركي على أمنها ووجودها واستقرارها ومكانتها، في منطقة تُمسك الولايات المتحدة بمعظم أنظمتها عبر المكانة والسطوة والقدرة الردعية والإكراه، وهو ما يتعارض بطبيعة الحال مع دلالات الانسحاب، خاصة بالكيفية التي حصل بها.
لا يمكن النظر، إسرائيلياً، إلى الانسحاب الأميركي من زاوية كونه منفرداً واستثنائياً


بالطبع، ثمّة مبالغة آنية في المقاربة الإسرائيلية، وشيء من «وضع اليد على الخد»، والذي اعتاده الإعلام العبري في مثل هكذا حالات. إذ لا يشكّل الانسحاب في ذاته تحوّلاً كفيلاً بتوليد أضرار استراتيجية يتعذّر احتواؤها، لكنّ الخشية الفعلية لدى صانع القرار في تل أبيب هي ممّا سيليه، على مستويات عدّة. المُسلَّم به في إسرائيل هو أن مكانة الولايات المتحدة في وعي أعدائها تمثّل جزءاً لا يتجزّأ من القدرة الإسرائيلية نفسها، بما يشمل مستوى ردع الكيان، ومنعة أمنه، وربّما استمرار وجوده؛ وأيّ تراجُع في هذه المكانة لدى أعداء «الحليفَين» لا ينعكس سلباً على الولايات المتحدة فقط، إنما أيضاً على أمن إسرائيل ومستقبلها. كذلك، لا يمكن النظر، إسرائيلياً، إلى الانسحاب الأميركي من زاوية كونه منفرداً واستثنائياً، بل بوصفه محطّة في مسار بات من الصعب إيقافه، ويُقدّر أن يمتدّ لاحقاً إلى دول وساحات أخرى، من بينها العراق وسوريا، تدرك تل أبيب أن أيّ تراجع أميركي فيها سيولّد تهديدات لا يمكن حصر أضرارها. بمعنى آخر، تخشى إسرائيل من أن يُسرّع الخروج من أفغانستان وتيرة الانسحابات في سوريا والعراق، حيث يتركّز جلّ اهتمامها. وهو إن حصل، سيعني تحوُّلاً استراتيجياً تاريخياً، من شأنه أن يترك آثاره السلبية على مستقبل وجود الكيان.
«مشاهد الانسحاب مرعبة ومخيفة لكلّ حلفاء أميركا في الشرق الأوسط والعالم، وخصوصاً لإسرائيل. تعالوا نعتَدْ على حقبة، سنكون فيها وحدنا مع إيران، من دون إسناد استراتيجي يرتكز على وجود أميركي مباشر يساند موقفنا ومصالحنا». هذا ما وصفت به صحيفة «معاريف» الانسحاب الأميركي، الذي ركّزت صحيفة «هآرتس»، من جهتها، في مقاربة لا تقلّ دلالة، على ظروفه وحيثياته، التي لا ترتبط بقرار أحادي شاذّ، بل بإدراك جمعي أميركي لحدود القدرة على صوغ الواقع من خلال القوة العسكرية». ومن هنا، اعتبرت الصحيفة أن «التأثير الحقيقي على حلفاء أميركا، وخاصة إسرائيل والأنظمة العربية الموالية للغرب، هو أن أميركا الآن، وفي المستقبل المنظور، لديها إدراك متزايد لحدود قدرتها».